(فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ) الذي يرسله ليستوفي له الديون منْ النَّاس (خُذْ مَا تَيَسَّرَ) أي للمديون أدؤه (وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ) بضم السين المهملة، وكسرها: أي ما صعُب عليه، يقال: عَسُر الأمر عُسْرًا، مثل قَرُب قُرْبًا، وعَسَارَةً بالفتح، فهو عسير: أي صَعْبٌ شديدٌ، ومنه قيل للفقر: عُسْرٌ، وعَسِرَ الأمر عَسَرًا، فهو عَسِرٌ، منْ باب تَعِبَ، وتعسّر، واستعسر كذلك. قاله فِي "المصباح"(وَتَجَاوَزْ) أي لا تتعرّض له بمطالبة ما يشقّ عليه (لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا) قَالَ السنديّ: "أن" زائدة دخلت فِي خبر "لعلّ" تشبيها لها بـ"عسى"(فَلَمَّا هَلَكَ) أي مات ذلك الرجل المذكور (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟) وفي حديث أبي مسعود -رضي الله عنه- عند مسلم رفعه:"حوسب رجل ممن كَانَ قبلكم، فلم يوجد له منْ الخير شيءٍ إلا أنه كَانَ يخالط، وكان موسرًا … " الْحَدِيث. وفي رواية عند مسلم أيضًا:"أُتي الله بعبد منْ عباده آتاه الله مالاً، فَقَالَ له: ما عملت فِي الدنيا؟ -قَالَ:{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} - قَالَ: يا رب آتيتني مالك، فكنت أبايع النَّاس، وكان خلقي الجواز … " الْحَدِيث، وفي رواية:"فيقول: يا رب ما عملت لك شيئًا أرجو به كثيرًا، إلا أنك كنت أعطيتني فضلا منْ مال … " الْحَدِيث (قَالَ) الرجل (لَا) أي لم أعمل خيرًا قط. قَالَ أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا العموم مخصّصٌ قطعًا بأنه كَانَ مؤمنًا, ولولا ذلك لما تجاوز عنه، فـ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النِّساء: ٤٨]، وهل كَانَ قائما بفرائض دينه منْ الصلاة، والزكاة، وما أشبههما؟ هَذَا هو الأليق بحاله، فإن هَذَا الْحَدِيث يشهد بأنه كَانَ ممن وُقي شُحّ نفسه، وعلى هَذَا فيكون معنى هَذَا العموم أنه لم يوجد له شيء منْ النوافل إلا هَذَا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "هَذَا هو الأليق بحاله" فيه نظر؛ لأنه ينافيه قوله:"لم يعمل خيرًا قط"، فالظاهر أن النفي عَلَى عمومه عدا الإيمان, فيكون المعنى أنه لم يعمل خيرًا زائدا عَلَى الإيمان. والله تعالى أعلم.
قَالَ: ويحتمل أن يكون له نوافل أُخَر، غير أن هَذَا كَانَ الأغلب عليه، فنودي به، وجُوزي عليه، ولم يذكر غيره اكتفاء بهذا.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الاحتمال أبعد منْ الذي قبله، فتأمّل. والله تعالى أعلم.
قَالَ: ويحتمل أن يكون المراد بالخير: المال، فيكون معناه أنه لم يوجد له فعل برّ فِي المال إلا ما ذُكر منْ إنظار المعسر. انتهى كلام القرطبيّ (١).