يقتضي إراقة الدم أقرب، وأما منْ قَالَ: يحتمل أن يكون قوله: "دم صاحبكم" هو القتيل، لا القاتل، فيرده قوله:"دم صاحبكم"، أو "قاتلكم".
وتُعُقّب بأن هذه القصة واحدة، اختلفت ألفاظ الرواة فيها، عَلَى ما تقدم بيانه، فلا يستقيم الاستدلال بلفظ منها؛ لعدم تحقق أنه اللفظ الصادر منْ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-.
واستَدَلَّ منْ قَالَ بالقود أيضا، بما أخرجه مسلم، والنسائي -٢/ ٤٧١٠ - منْ طريق الزهريّ، عن سليمان بن يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أناس منْ أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن القسامة كانت فِي الجاهلية، وأقرها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى ما كانت عليه منْ الجاهلية، وقضى بها بين ناس منْ الأنصار، فِي قتيل ادَّعَوه عَلَى يهود خيبر".
وهذا يَتوقَّف عَلَى ثبوت أنهم كانوا فِي الجاهلية يقتلون فِي القسامة، وعند أبي داود، منْ طريق عبد الرحمن بن بُجيد -بموحدة، وجيم، مصغرًا- قَالَ: إن سهلا -يعني ابن أبي حثمة- وَهِمَ فِي الْحَدِيث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كتب إلى يهود: إنه قد وجد بين أظهركم قتيل، فَدُوه، فكتبوا يحلفون ما قتلناه، ولا علمنا قاتلا، قَالَ: فوداه منْ عنده"، وهذا رده الشافعيّ، بأنه مرسل، ويعارض ذلك: ما أخرجه ابن مَنْدَهْ فِي "الصحابة" منْ طريق مكحول: حدثني عمرو بن أبي خزاعة، أنه قُتِل فيهم قتيل عَلَى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل القسامة عَلَى خُزاعة: بالله ما قتلنا, ولا علمنا قاتلا، فحلف كل منهم عن نفسه، وغَرِم الدية، وعمرو مختلف فِي صحبته. وأخرج ابن أبي شيبة بسند جيد إلى إبراهيم النخعي، قَالَ: كانت القسامة فِي الجاهلية، إذا وُجد القتيل بين ظهري قوم، أقسم منهم خمسون خمسين يمينا، ما قتلنا, ولا علمنا، فإن عجزت الأيمان، رُدّت عليهم، ثم عقلوا.
وتمسك منْ قَالَ: لا يجب فيها إلا الدية، بما أخرجه الثوري فِي "جامعه"، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، بسند صحيح، إلى الشعبي، قَالَ: وُجد قتيل بين حيين منْ العرب، فَقَالَ عمر: قيسوا ما بينهما، فأيهما وجدتموه إليه أقرب، فأحلفوهم خمسين يمينا، وأغرموهم الدية. وأخرجه الشافعيّ، عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي: "أن عمر كتب فِي قتيل، وُجد بين خيران ووادعة، أن يقاس ما بين القريتين، فإلى أيهما كَانَ أقرب، أُخرج إليهم (١) منهم خمسون رجلا، حَتَّى يوافوه مكة، فأدخلهم الحجر، فأحلفهم، ثم قضى عليهم الدية، فَقَالَ: حَقَنَت أيمانكم دماءكم، ولا يُطَلُّ دم رجل مسلم"، قَالَ الشافعيّ: إنما أخذه الشعبي، عن الحارث الأعور، والحارث غير
(١) هكذا فِي "الفتح" ١٤/ ٢٢٩ والظاهر أن الصواب "إليه" بإفراد الضمير: أي إلى عمر -رضي الله عنه-.