المعاهدين دية المسلم، وأخرج أيضا عن ابن عمر: أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وَدَى ذميا دية مسلم.
ويجاب عن حديث ابن عباس، بأن فِي إسناده أبا سعيد البَقّال، واسمه سعيد بن المَرْزُبان، ولا يحتج بحديثه، والراوي عنه أبو بكر بن عياش، وحديث الزهريّ مرسل، ومراسيله قبيحة؛ لأنه حافظ كبير، لا يرسل إلا لعلة، وحديث ابن عباس الآخر فِي إسناده أيضا أبو سعيد البقال المذكور، وله طريق أخرى فيها الحسن بن عُمارة، وهو متروك، وحديث ابن عمر فِي إسناده أبو كُرْز، وهو أيضا متروك، ومع هذه العلل، فهذه الأحاديث معارضة بحديث الباب، وهو أرجح منها، منْ جهة صحته، وكونه قولا، وهذه فعلٌ، والقول أرجح منْ الفعل.
ولو سلمنا صلاحيتها للاحتجاج، وجعلناها مخصصة لعموم حديث الباب، كَانَ غاية ما فيها إخراج المعاهد، ولا ضير فِي ذلك، فإن بين الذمي والمعاهد فرقا؛ لأن الذمي ذَلَّ، ورضى بما حكم به عليه منْ الذلة، بخلاف المعاهد، فلم يرض بما حكم عليه به منها، فوجب ضمان دمه وماله، الضمانَ الأصليَّ الذي كَانَ بين أهل الكفر، وهو الدية الكاملة التي ورد الإسلام بتقريرها.
ولكنه يعكُر عَلَى هَذَا ما وقع فِي رواية منْ حديث عمرو بن شعيب عند أبي داود، بلفظ:"دية المعاهد نصف دية الحر"، وتخلص عن هَذَا بعض المتأخرين، فَقَالَ: إن لفظ "المعاهد" يُطلق عَلَى الذمي، فيحمل ما وقع فِي حديث عمرو بن شعيب عليه؛ ليحصل الجمع بين الأحاديث، ولا يخفى ما فِي ذلك منْ التكلف، والراجح العمل بالحديث الصحيح، وطرح ما يقابله، مما لا أصل له فِي الصحة، وأما ما ذهب إليه أحمد منْ التفصيل باعتبار العمد والخطإ، فليس عليه دليل. انتهى "نيل الأوطار" ٧/ ٦٩ - ٧١.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن التنصيص الواقع فِي حديث الباب بقوله: "وهم اليهود والنصارى" بعد قوله: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين" واضح الدلالة عَلَى أن غير أهل الكتاب منْ الكفار يخالفهم فِي الدية، فحمل قوله فِي الْحَدِيث التالي:"عقل الكافر نصف عقل المؤمن" عَلَى أهل الكتاب هو الأولى، فالأرجح أن دية المجوسي وغيره منْ المعاهدين ثمانمائة درهم، كما أسلفت إيضاحه، فتأمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.