للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَقَالَ: الأحاديث التي أخرجها البخاريّ التي جاء فيها الدية عَلَى العاقلة أصحّ منه؛ لأن ابن عيينة قد رواه عن عمرو بن دينار، ولم يذكر فيه قتل المرأة الضاربة بالمسطح، وكذلك رواه الحميديّ عن هشام بن سليمان المخزوميّ، عن ابن جُريج، مثل رواية ابن عيينة، ولم يذكر فيه قتل المرأة، ورَوَى شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح، عن حمَل بن مالك بن النابغة، قَالَ: "كانت لي امرأتان، فضربت إحداهما الأخرى بحجر، فأصابتها، فقتلتها، وهي حامل، فألقت جنينًا، وماتت، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدية عَلَى العاقلة، وقضى فِي الجنين بغرّة: عبدٍ، أو أمة".

قَالَ الطحاويّ: فلما اضطرب حديث حمل بن مالك، كَانَ بمنزلة ما لم يرد فيه شيء، وثبت ما روى أبو هريرة، والمغيرة فيها، وهو نفي القصاص، ولَمّا ثبت أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- جعل دية المرأة عَلَى العاقلة، ثبت أن دية شبه العمد عَلَى العاقلة. وَقَدْ رُوي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قَالَ: شبه العمد بالعصا، والحجر الثقيل، وليس فيهما قَوَد.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي ادّعاه الطحاويّ منْ اضطراب حديث حمل ابن مالك -رضي الله عنه- فيه نظرٌ لا يخفى، فإن الْحَدِيث ليس فيه اضطراب يوجب اطّراحه، فإن شرط الاضطراب أن لا يمكن ترجيح بعض الروايات عَلَى بعضها، وإلا فيُؤخذ بالراجح، ويطرح المرجوح، وما هنا كذلك، فقد تقدّم أن زيادة "وأن تُقتل المرأة" ليست ثابتة؛ لما أسلفناه منْ الأدلة، وإنما الثابت أنه -صلى الله عليه وسلم- قضى عَلَى عصبة القاتلة بدية المرأة، وغرّة جنينها، كما هو الثابت فِي حديث أبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، رضي الله تعالى عنهما، فتبصّر، ولا تتحيّر. والله تعالى أعلم.

قَالَ: وَقَدْ تأول الأصيليّ حديث أبي هريرة، والمغيرة رضي الله تعالى عنهما عَلَى مذهب مالك، فَقَالَ: يحتمل أن يكون لَمّا وجب قتل المرأة، تطوّع قومها عاقلتُها ببذل الدية لأولياء المقتولة، ثم ماتت القاتلة، فقبل أولياء المقتولة الدية، وَقَدْ يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بأداء ما تطوّعوا به إلى ألياء المقتولة. انتهى كلام ابن بطال فِي "شرح البخاريّ" ٨/ ٥٥٥ - ٥٥٦.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: تأويل الأصيلي المذكور غير مقبول؛ لأنه خلاف ظواهر النصوص، فإنها واضحة فِي كونه -صلى الله عليه وسلم- قضى عليهم بالدية؛ لكونه شبه عمد، لا لكونه عمدًا، تطوّع العاقلة ببذله، وأيضا أنهم إذا تطوّعوا لا حاجة إلى قضائه -صلى الله عليه وسلم- عليهم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تَتَهَوَّر بالاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.