قَالَ أبو عمر: الحجة قائمة لمالك، والشافعي عَلَى أبي حنيفة بالحديث المذكور فِي هَذَا الباب؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قطع يد السارق الذي سرق ثوب صفوان بن أمية بعد أن وهبه له، وَقَالَ:"هلا قبل أن تأتيني به"، ومعنى قوله عندهم:"فهلا قبل أن تأتيني به": هلا كَانَ ما أردت منْ العفو عنه، قبل أن تأتيني به، فإن الحدود إذا لم أوت بها، ولم أعرفها لم أقمها، وإذا أتتني لم يجز العفو عنها، ولا لغيري، هَذَا معناه. والله أعلم. وَقَدْ احتج الشافعيّ بالزاني، توهب له الأمة التي زنى بها، أو يشتريها إنَّ ملكه الطارىء لا يزيل الحد عنه، فكذلك السرقة.
ومن حجة أبي حنيفة فِي قوله: متى وهب السرقة صاحبها للسارق سقط الحد، قوله -صلى الله عليه وسلم-: "تعافوا عن الحدود بينكم، فما بلغني منْ حد فقد وجب"، قَالَ: فهذا الحد قد عفي عنه بالهبة، وَقَدْ حصلت ملكا للسارق قبل أن يبلغ السلطان، فلم يبلغ الحد السلطان، إلا وهو معفو عنه، قَالَ: وما حصل ملكا السارق، استحال أن يقطع فيه؛ لأنه إنما يقطع فِي ملك غيره، لا فِي ملك نفسه.
ومن حجتهم أيضا: أن الطارىء منْ الشبهة فِي الحدود، بمنزلة ما هو موجود فِي الحال، قياسا عَلَى الشهادات. وبالله التوفيق.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قالوه كله قياس فِي مقابلة النصّ، فيكون فاسدًا، ولقد أحسن منْ قَالَ، وأجاد فِي المقال:
قَالَ أبو عمر: وَقَدْ اختلفوا فِي السارق تُدَّعَى عليه السرقة فِي ثوب هو بيده يدعيه لنفسه وصاحب السرقة غائب فَقَالَ أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لا يخاصمه فِي ذلك أحد إلا رب الثوب ولا يسمع منْ غيره فِي ذلك بينة ولا خصومة فِي ذلك بينه وبين منْ يدعي عليه حَتَّى يأتي رب الثوب أو وكيله فِي ذلك وَقَالَ ابن أبي ليلى ومالك كل منْ خاصمه فِي ذلك منْ النَّاس كَانَ خصما له وسمعت بينته فإن قبلت قطع وإن لم يأت بمدفع وهذه المسائل كلها فِي معنى الْحَدِيث فلذلك ذكرناها وبالله التوفيق. انتهى "التمهيد" ١١/ ٢٢٥.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه المسألة أيضا منْ نوع الذي قبلها، فهي غير صحيحة، والحاصل أن الحقّ أن التجاوز عن السرقة إنما يجوز قبل أن يُرفع إلى الإمام، فأما بعد رفعه، فلا يجوز؛ للنصّ الصحيح الصريح، فتبصّر بالإنصاف، ولا تتحيّر بالتقليد والاعتساف. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.