بقلبه، وكان فِي سعة، وهذا هو المراد بالحديث -إن شاء الله تعالى- وإن وجد منْ يستعين به عَلَى ذلك، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، ولْيرفع ذلك إلى منْ له الأمر، إن كَانَ المنكر منْ غيره، أو يقتصر عَلَى تغييره بقلبه، هَذَا هو فقه المسألة، وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال، وإن قُتل ونيل منه كل أَذًى. هَذَا آخر كلام القاضى رحمه الله تعالى.
قَالَ إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ويسوغ لآحاد الرعية، أن يَصُدّ مرتكب الكبيرة، إن لم يندفع عنها بقوله، ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال، وشَهْر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك، ربط الأمر بالسلطان، قَالَ: وإذا جار والى الوقت، وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ عَلَى خلعه، ولو بشهر الأسلحة، ونصب الحروب، هَذَا كلام إمام الحرمين، وهذا الذى ذكره منْ خلعه غريب، ومع هَذَا فهو محمول عَلَى ما إذا لم يُخَف منه إثارة مفسدة أعظم منه.
قَالَ: وليس للآمر بالمعروف البحث، والتنقير، والتجسس، واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر عَلَى منكر غَيره جهده، هَذَا كلام إمام الحرمين.
وَقَالَ أقضى القضاة الماوردى: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر منْ المحرمات، فإن غلب عَلَى الظن استسرار قوم بها؛ لأمارة، وآثار ظهرت، فذلك ضربان:[أحدهما]: أن يكون ذلك فِي انتهاك حرمة، يفوت استدراكها، مثل أن يُخبره منْ يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له فى مثل هَذَا الحال أن يتجسس، ويُقدم عَلَى الكشف، والبحث حذرا منْ فوات ما لا يُستدرك، وكذا لو عَرَف ذلك غير المحتسب منْ المتطوعة، جاز لهم الإقدام عَلَى الكشف، والإنكار.
[الضرب الثاني]: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة منْ دار، أنكرها خارج الدار، لم يَهُجم عليها بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. وقد ذكر الماوردي فِي آخر "الأحكام السلطانية" بابا حسنا فى الحسبة، مشتملا عَلَى جُمَل منْ قواعد الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وَقَدْ أشرنا هنا إلى مقاصده، وبسطت الكلام فى هَذَا الباب؛ لعظم فائدته، وكثرة الحاجة إليه، وكونه منْ أعظم قواعد الإسلام. والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى "شرح صحيح مسلم" ٢/ ٢١ - ٢٦. وهو كلام نفيسٌ جدًّا، ولنفاسته نقلته برمّته. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.