وهل تدخل النفس فِي عموم قوله:"والناس أجمعين"، الظاهر دخولها. وقيل: إضافة المحبّة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وَقَدْ وقع التنصيص بذكر النفس فِي حديث عبد الله بن هشام، كما سيأتي.
والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار، لا حب الطبع، قاله الخطّابيّ، وَقَالَ النوويّ: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة، والمطمئنة، فإن منْ رجّح جانب المطمئنة، كَانَ حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- راجحا، ومن رجح جانب الأمّارة، كَانَ حكمه بالعكس.
وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط فِي صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبّة عَلَى معنى التعظيم والإجلال.
وتعقبه صاحب "المفهم" بأن ذلك ليس مرادا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية، ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه منْ محبته، قَالَ: فعلى هَذَا منْ لم يجد منْ نفسه ذلك الميل، لم يكمل إيمانه، وإلى هَذَا يوميء قول عمر -رضي الله عنه- الذي رواه البخاريّ فِي "الأَيمان والنذور" منْ حديث عبد الله بن هشام، كنا مع النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فَقَالَ له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ منْ كل شيء، إلا منْ نفسي، فَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا، والذي نفسي بيده، حَتَّى أكون أحب إليك منْ نفسك"، فَقَالَ له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ منْ نفسي، فَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر"(١)، انتهى.
فهذه المحبّة ليست باعتقاد الأعظميه فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا.
ومن علامة الحب المذكور: أن يَعرِض عَلَى المرء أن لو خُيِّر بين فقد غرض منْ أغراضه، أو فقد رؤية النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أن لو كانت ممكنةً، فإن كَانَ فقدها، أن لو كانت ممكنة أشد عليه، منْ فقد شيء منْ أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصورا فِي الوجود والفقد، بل يأتي مثله فِي نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(١) قَالَ فِي "الفتح" ١٣/ ٣٧٥ - : أي الآن عرفت، فنطقت بما يجب، وأما تقرير بعض الشرّاح: الآن صار إيمانك معتدًا به، إذ المرء لا يُعتدّ بإيمانه حَتَّى يقتضي عقله ترجيح جانب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ففيه سوء أدب فِي العبارة، وما أكثر ما يقع مثل هَذَا فِي كلام الكبار عند عدم التأمل، والتحرز؛ لاستغراق الفكر فِي المعنى الأصلي، فلا ينبغي التشديد فِي الأنكار عَلَى منْ وقع ذلك منه، بل يُكتفى بالإشارة إلى الردّ، والتحذير منْ الاغترار به؛ لئلا يقع المنكر فِي نحو مما أنكره. انتهى.