(ومنها): ما قاله الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: لَمّا نفى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمن لم يُحب لأخيه ما يُحبّ لنفسه، دلّ عَلَى أن ذلك منْ خصال الإيمان، بل منْ واجباته، فإن الإيمان لا يُنفَى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قَالَ:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمنٌ … " الْحَدِيث. وإنما يُحب الرجل لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا سلم منْ الحسد، والغلّ، والغشّ، والحقد، وذلك واجبٌ، كما قَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدخلو الجنة حَتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حَتَّى تحابّوا"، رواه مسلم (٥٤)، فالمؤمن أخو المؤمن، يحبّ له ما يُحبّ لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين فِي توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر"، متّفقٌ عليه.
فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلةً منْ دين، أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظيرها، منْ غير أن تزول عنه، كما قَالَ ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: إني لأمرّ بالآية منْ القرآن، فأفهمها، فأودّ أن النَّاس كلَّهم فهموا منها ما أفهم. وَقَالَ الشافعيّ رحمه الله تعالى: ودِدتُ أن النَّاس كلّهم تعلّموا هَذَا العلمَ، ولم يُنسب إليّ منه شيء.
فأما حبّ التفرد عن النَّاس بفعل دينيّ، أو دنيويّ، فهو مذموم، قَالَ الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية [القصص: ٨٣]، وَقَدْ قَالَ عليّ -رضي الله عنه- وغيره: هو أن لا يُحبّ أن يكون نعله خيرًا منْ نعل غيره، ولا ثوبه خيرًا منْ ثوب غيره. وفي الْحَدِيث المشهور في "السنن": "منْ تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه النَّاس إليه، فليتبوأ مقعده منْ النار".
وأما الْحَدِيث الذي فيه أن رجلاً سأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: إني أحبّ الجمال، وما أحبّ أن يفوقني أحدٌ بشراك نعلي، فَقَالَ له النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "ليس هَذَا منْ الكبر"، فإنما فيه أنه أحبّ أن لا يعلو عليه أحدٌ، وليس فيه محبّة أن يعلو هو عَلَى النَّاس، بل يصدق هَذَا أن يكون مساويا لأعلاهم، فما حصل بذلك محبّة العلوّ عليهم، والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصّصه الله تعالى بها عن غيره، فأخبر بها عَلَى وجه الشكر، لا عَلَى وجه الفخر، كَانَ حسنًا، كَانَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول:"أنا سيّد ولد آدم، ولا فخر، وأنا أول شافع، ولا فخر" رواه مسلم، ورواه البخاريّ بلفظ مغاير لهذا. وَقَالَ ابن مسعود -رضي الله عنه-: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل، لأتيته. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى "شرح البخاريّ" ١/ ٤٥ - ٤٧. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.