للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

والمعنى: استعينوا عَلَى مداومة العبادة، بإيقاعها فِي الأوقات الْمُنَشِّطَة، فإن هذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- خاطب مسافرا إلى مقصد، فنبهه عَلَى أوقات نشاطه؛ لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا، عجز وانقطع، وإذا تحرى السير فِي هذه الأوقات المنشطه، أمكنته المداومة، منْ غير مشقة. وحَسَّنَ هذه الاستعارة، أن الدنيا فِي الحقيقة، دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة.

وقوله فِي رواية ابن أبي ذئب: "القصدَ القصدَ" -بالنصب فيهما عَلَى الإغراء، والقصد الأخذ بالأمر الأوسط. قاله فِي "الفتح".

وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: يعني أن هذه الأوقات الثلاثة أوقات العمل، والسير إلى الله تعالى، وهي أول النهار، وآخره، فالغُدوة أول النهار، والروحة آخره، والدُّلْجة سير آخر الليل. وفي "سنن أبي داود" ٢٥٧١: عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إذا سافرتم، فعليكم بالدُّلْجة، فإن الأرض تُطوى بالليل". فسير آخر الليل محمود فِي سير الدنيا بالأبدان، وفي سير القدوب إلى الله بالأعمال. وأخرج البخاريّ هَذَا الْحَدِيث فِي أواخر كتابه، وزاد فيه: "القصدَ القصدَ تبلغوا". يعني أن منْ دام عَلَى سيره إلى الله فِي هذه الأوقات الثلاثة، مع الاقتصاد بلغ، ومن لم يقتصد، بل بالغ، واجتهد، فربّما انقطع فِي الطريق، ولم يبلغ. وَقَدْ جاء منْ رواية عبد الله بن عمرو بن العاص، مرفوعاً: "إن هَذَا الدين متينٌ، فأوغِل فيه برفق، ولا تُبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإن الْمُنْبَتَّ لا سفراً قطع، ولا ظهرًا أبقى" (١). والمنبت هو المنقطع فِي سفره قبل وصوله، فلا سفره قطع، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى، حَتَّى يمكنه السير عليه بعد ذلك، بل هو كالمنقطع فِي المفاوز، فهو إلى الهلاك أقرب، ولو أنه رفَق براحلته، واقتصد فِي سيره عليها، لقطعت به سفره، وبلغ إلى المنزل. انتهى "شرح البخاريّ لابن رَجَب" ١/ ١٥٢ - ١٥٣.

[تنبيه]: أورد البخاريّ هَذَا الْحَدِيث بعد حديث الجهاد، وقيام رمضان، وصومه، فَقَالَ الحافظ رحمه الله تعالى فِي "الفتح": ومناسبة إيراد المصنّف لهذا الْحَدِيث، عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة، منْ حيث إنها تضمنت الترغيب فِي القيام، والصيام، والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك، أن لا يُجهِد نفسه، بحيث يَعجَز،


(١) أخرجه ابن المبارك فِي "الزهد" ص ٤٦٩ والبيهقي ٣/ ١٩. وحسنه الشيخ الألبانيّ بمجموع طرقه، انظر "صحيح الجامع الصغير" ١/ ٤٤٧ رقم ٢٢٤٦ و"السلسلة الضعيفة" ٥/ ٥٠١ - ٥٠٣ رقم ٢٤٨٠.