وَقَالَ الحافظ ابن رَجَب رحمه الله تعالى: قوله: "فسدّدوا، وقاربوا": التسديد: هو إصابة الغرض المقصود، وأصله منْ تسديد السهم: إذا أصاب الغرض الْمَرْميَّ إليه، ولم يُخطئه. والمقاربة: أن يقارب الغرض، وإن لم يُصبه، لكن يكون مجتهداً عَلَى الإصابة، فيُصيب تارةً، ويقارب أُخْرَى، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة، كما قَالَ تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآية [التغابن: ١٦]، وَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم"، متَّفقٌ عليه. وفي "المسند" ٤/ ٢١٢، و"سنن أبي داود" ١٠٩٦ عن الحكم بن حَزْن الْكُلَفيّ أنه سمع النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول عَلَى المنبر، يوم الجمعة:"يا أيها النَّاس، إنكم لن تُطيقوا -أو لن تفعلوا- كلّ ما أمرتكم، ولكن سدّدوا، وأبشروا".
وقيل: أراد بالتسديد: العمل بالسداد، وهو القصد، والتوسّط فِي العبادة، فلا يُقصّر فيما أُمر به، ولا يتحمّل منها ما لا يُطيقه. قَالَ النضر بن شُميل: السَّدَاد: القصد فِي الدين والسبيل، وكذلك المقاربة المراد بهما التوسط بين التفريط والإفراط، فهما كلمتان بمعنىً واحدٍ.
وقيل: بل المراد بالتسديد التوسّط فِي الطاعات بالنسبة إلى الواجبات والمندوبات، وبالمقاربة: الاقتصار عَلَى الواجبات. وقيل فيهما غير ذلك. انتهى "شرح البخاريّ" ١/ ١٥١ - ١٥٢.
(وَأَبْشِرُوا) بقطع الهمزة، منْ الإبشار، يقال: أبشر: إذا فرِح، ومنه أبشر بخير. قاله فِي "القاموس"، وَقَالَ أيضاً: بشرت به، كعلم، وضرب: سُرِرتُ. انتهى. وفي "المصباح": بَشِر بكذا، مثل فرح يفرَح وزنًا ومعنى، وهو الاستبشار أيضًا، والمصدر البُشُور، ويتعدّى بالحركة، فيقال: بَشَرتَهُ أبشُرُه بشرا، منْ باب قتل فِي لغة تهامة، وما والاها. انتهى.
والمعنى: استبشروا بالثواب عَلَى العمل الدائم، وإن قَلَّ، والمراد تبشير منْ عجز عن العمل بالأكمل، بأن العجز إذا لم يكن منْ صنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به؛ تعظيما له، وتفخيمًا (وَيَسِّرُوا) عَلَى أنفسكم، وعلى غيركم فِي أمور الدين (وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ) بضم الغين المعجمة، وسكون الدال المهملة، وضبطه الكرماني، والحافظ بالفتح، وتعقّبهما العينيّ، وهو كما قَالَ: وهو سير أول النهار إلى الزوال، وَقَالَ الجوهري: ما بين صلاة الغداة، وطلوع الشمس، (وَالرَّوْحَةِ) -بالفتح: السير بعد الزوال (وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ") -بضم أوله، وفتحه، وإسكان اللام-: سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله، وعَبَّر فيه بـ"منْ" التبعيضية؛ لأن عمل الليل أشق منْ عمل النهار.