البخاريّ عن عبد الله بن موهب، قَالَ:"دخلت عَلَى أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فأخرجت لنا شعرات منْ شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مخضوبًا"، زاد ابن أبي شيبة:"بالحنّاء والكتم"، والإسناد واحد. ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله تعالى عنهما، فلو علما أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يختضب لما اختضبا، فإنهما ما كانا باللذين يَعدِلان عن سنّته، ولا عن اتباعه، والفصل لهؤلاء منْ أحاديث أنس، وما فِي معناه بأن الخضاب لم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- دائمًا، ولا فِي كلّ حالٍ، وإنما كَانَ فِي بعض الأوقات، فلم يلتفت أنس -رضي الله عنه- لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول. وأولى منْ هَذَا أن يقال: إنه -صلى الله عليه وسلم- لما لم يكن شيبه كثيرًا، وإنما كَانَ فِي لحيته، وصُدْغيه نحو العشرين شعرةً بيضاً، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.
وَقَدْ اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رِمثة، وابن عمر -رضي الله عنهم- بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحنّاء، وإنما كَانَ تغييرًا بالطيب، ولذلك قَالَ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما:"كَانَ يصبغ بالصفرة"، ولم يقل: بالحنّاء، وهذه الصفرة هي التي قَالَ عنها أبو رمثة -رضي الله عنه-: "ردْعٌ منْ حنّاء"؛ لأنه شبّهها بها، وأما حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فيحتمل أن يكون ذلك فُعل بشعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده بطيب، أو غيره؛ احترامًا، وإكرامًا. والله أعلم. انتهى "المفهم" ٥/ ١٣١ - ١٣٢.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله تعالى أنه المختار، وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- صبغ فِي وقت، وتركه فِي معظم الأوقات، فأخبر كُلٌّ بما رأى، وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر فِي "الصحيحين"، ولا يمكن تركه، ولا تأويل له، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: رجال هَذَا الإسناد كلهم رجال الصحيح، وتقدّموا غير مرّة. "عبد الصمد": هو ابن عبد الوارث التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، صدوقٌ، ثبت فِي شعبة [٩] ١٢٢/ ١٧٤. و"المثنى بن سعيد": هو الضُّبَعيّ، أبو سعيد البصريّ الْقَسّام القصير، ثقة [٦] ٥/ ١٨٢٨. والسند مسلسل بثقات البصريين، وفيه أنس -رضي الله عنه- أحد المكثرين السبعة، رَوَى (٢٢٨٦) حديثًا، وهو آخر منْ مات منْ الصحابة بالبصرة، سنة (٩٣) وقيل: غير ذلك، وَقَدْ جاوز مائة. والله تعالى أعلم.