هو [القسم الثاني]، وهو الذي أنكر أحمد التسوية بينهما، والحفّاظ كثيرًا ما يذكرون مثل هَذَا، ويعدّونه اختلافًا فِي إرسال الْحَدِيث، واتّصاله، وهو موجود كثيرًا فِي كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والدارقطنيّ، وغيرهم منْ الأئمّة.
ومن النَّاس منْ يقول: هما سواء، كما ذُكر ذلك لأحمد، وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكيّ قصّته، كعروة، مع عائشة، أما منْ لم يُعرف له سماعٌ منه، فلا ينبغي أن يُحمل عَلَى الاتصال، ولا عند منْ يكتفي بإمكان اللقيّ، والبخاريّ قد يُخرج منْ هَذَا القسم فِي "صحيحه"، كحديث عكرمة أن عائشة قالت للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- فِي قصّة امرأة رفاعة، عَلَى تقدير أن يكون عكرمة سمع منْ عائشة، وَقَدْ ذكر الإسماعيليّ فِي "صحيحه" أن المتقدّمين كانوا لا يفرّقون بين هاتين العبارتين، وكذلك ذكر أحمد أيضاً أنهم كانوا يتساهلون فِي ذلك، مع قوله: إنهما ليسا سواء، وأن حكمهما مختلفٌ، لكن كَانَ يقع ذلك منهم أحيانًا عَلَى وجه التسامح، وعدم التحرير. قَالَ أحمد فِي رواية الأثرم فِي حديث سفيان، عن أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن حُذافة فِي النهي عن صيام أيام التشريق، ومالك قَالَ فيه: عن سليمان بن يسار أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن حُذافة، قَالَ أحمد: هو مرسلٌ، سليمان لم يدرك عبد الله بن حذافة، قَالَ: وهم كانوا يتساهلون بين "عن عبد الله بن حُذافة"، وبين "أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن حُذافة"، قيل له: وحديث أبي رافع أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بعثه يخطب ميمونة، وَقَالَ مطر: عن أبي رافع؟ قَالَ: نعم، وذاك أيضاً. انتهى كلام ابن رَجَب رحمه الله تعالى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا البحثُ نفيسٌ جدًّا، فاغتنمه ينفعك فِي مواطن كثيرة، إذ العبارة "عن فلان قَالَ كذا"، و"أن فلانًا قَالَ كذا"، كثيرة الوقوع فِي الأحاديث. ويُستفاد منه أن قول عبد الرحمن بن طرفة: قَالَ: أصيب أنفه الخ متّصلٌ؛ لأنه أدرك جدّه عرفجة، ولهذا كَانَ فِي رواية سلم بن زرير:"عن جدّه عرفجة بن أسعد أنه أصيب أنفه الخ". والله تعالى أعلم.
والحديث صحيحٌ، كما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
"إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكّلت، وإليه أنيب".