الطريق التي أخرجها مسلم:"ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر … فذكر الْحَدِيث الآتي فِي الباب بعد هَذَا الْحَدِيث، قَالَ: فإثبات قول بالكراهة دون التحريم، إما أن ينقض ما نقله منْ الإجماع، وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم عَلَى الرجال، كَانَ هو الكراهة، ثم انعقد الإجماع عَلَى التحريم عَلَى الرجال، والإباحة للنساء، ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة، وهو بعيد جدا.
وأما ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس -رضي الله عنه- قَالَ: "لقي عمر عبد الرحمن بن عوف، فنهاه عن لبس الحرير، فَقَالَ: لو أطعتنا للبسته معنا، وهو يضحك"، فهو محمول عَلَى أن عبد الرحمن، فهم منْ إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له، فِي لبس الحرير نسخ التحريم، ولم ير تقييد الإباحة بالحاجة، كما سيأتي. قاله فِي "الفتح" ١١/ ٤٦٣ - ٤٦٤.
وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: واختلف النَّاس فِي لباس الحرير، فمن مانع، ومن مجوّز عَلَى الإطلاق، وجمهور العلماء عَلَى منعه للرجال، وإباحته للنساء، وهو الصحيح لهذا الْحَدِيث -يعني حديث عمر -رضي الله عنه- المتقدّم- وما فِي بابه، وهي كثيرة، وأما إباحته للنساء، فيدلّ عليها قوله فِي هَذَا الْحَدِيث: "إنما بعثت بها إليك لتشقّقها خُمُرًا بين نسائك"، ولِمَا خرّجه النسائيّ منْ حديث عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قَالَ: إن نبيّ الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ حريرًا فِي يمينه، وذهبًا فِي شماله، ثم قَالَ: "إن هذين حرام عَلَى ذكر أمتي، حلّ لإناثها"، قَالَ عليّ بن المدينيّ: حديث حسنٌ، ورجاله معروفون.
وهذا كلّه فِي الحرير الخالص المصمت، فأما الذي سَداه حرير، ولُحمته غيره، فكرهه مالك، وإليه ذهب ابن عمر، وأجازه ابن عبّاس. والْخَزّ، فاختُلف فيه عَلَى ثلاثة أقوال: الحظر، والإباحة، والكراهة، وجُلّ المذهب عَلَى الكراهة. واختُلف فيه ما هو؟ فقيل: ما سَداه حرير، قَالَ ابن حبيب: ليس بين الخزّ وما سداه حرير، ولحمته قطن، أو غيره فرقٌ إلا الاتّباع، فإنه حُكي إباحة الخزّ عن خمسة وعشرين منْ الصحابة، منهم: عثمان بن عفّان، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عبّاس، وخمسة عشر تابعيًا، وكان عبد الله بن عمر يكسو بنيه الخزّ. وقيل: فِي الخزّ: إنه يُشبه الحرير، وليس به، ويكره لشبهه بالحرير، وللسرف.
قَالَ: واختُلف فِي علّة تحريم الحرير للرجال، فَقَالَ الأبهريّ: هي التشبه بالنساء. وقيل: ما يجرّه منْ الخيلاء. وقيل: التشبّه بالكفار الذين لا حظّ لهم فِي الآخرة، وهذا هو الذي دلّ عليه الْحَدِيث. انتهى "المفهم" ٥/ ٣٨٦ - ٣٨٧.