للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

للضرورة، وسيأتي اختلاف العلماء فِي ذلك فِي المسألة التالية، إن شاء الله تعالى. (ومنها): سماحة الشريعة، وسهولتها، حيث تراعي حاجات المكلّفين، فمهما اتّفق لهم ضرر يُلجؤهم إلى ارتكاب المحظور تُوَسّع عليهم، وتُبيح ذلك المحظور؛ رفقًا بهم، قَالَ الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} الآية [الأنعام: ١١٩]. (ومنها)؛ أن فيه بيان خاصيّة الحرير، حيث أنه يدفع أذى القمل، وضرر الحكّة.

وَقَالَ فِي "الفتح": ووقع فِي كلام النوويّ تبعا لغيره، أن الحكمة فِي لبس الحرير للحكة؛ لما فيه منْ البرودة. وتُعُقّب بأن الحرير حارّ، فالصواب أن الحكمة فيه لخاصة فيه؛ لدفع ما تنشأ عنه الحكة كالقمل. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

(المسألة الرابعة): فِي اختلاف أهل العلم فِي لبس الحرير للضرورة:

قد اختلف السلف فِي لباسه، فمنع مالك، وأبو حنيفة مطلقا، وَقَالَ الشافعيّ، وأبو يوسف: بالجواز للضرورة، وحكى ابن حبيب، عن ابن الماجشون، أنه يستحب فِي الحرب، وَقَالَ المهلب: لباسه فِي الحرب؛ لإرهاب العدو، وهو مثل الرخصة فِي الاختيال فِي الحرب. قاله فِي "الفتح" ٦/ ١٩٩ - ٢٠٠ فِي "كتاب الجهاد".

وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: ترخيص النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن، والزبير فِي لباس الحرير للحكّة، أو للقمل يدلّ عَلَى جواز ذلك للضرورة، وبه قَالَ جماعة منْ أهل العلم، وبعض أصحاب مالك، وأما مالك: فمنعه فِي الوجهين، والحديث واضح الحجة عليه، إلا أن يدّعي الخصوصية بهما، ولا يصحّ، أو لعلّ الْحَدِيث لم يبلغه. انتهى "المفهم" ٥/ ٣٩٨.

وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث صريحٌ فِي الدلالة لمذهب الشافعيّ، وموافقيه أنه يجوز لبس الحرير للرجل، إذا كانت به حكّة؛ لما فيه منْ البرودة (١)، وكذلك للقمل، وما فِي معنى ذلك. وَقَالَ مالك: لا يجوز، وهذا الْحَدِيث دليلٌ لجواز لبس الحرير عند الضرورة، كمن فاجأته الحرب، ولم يجد غيره. قَالَ: والصحيح عند أصحابنا، والذي قطع به جماهيرهم أنه يجوز لبس الحرير للحكّة، ونحوها فِي السفر، والحضر جميعاً. وَقَالَ بعض أصحابنا: يختصّ بالسفر، وهو ضعيف. انتهى "شرح مسلم" ١٤/ ٥٢ - ٥٣.

قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أن ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز لبس الحرير للضرورة هو الحقّ؛ لقوّة دليله. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.


(١) قد عرفت فيما مر آنفاً أنه حارّ، لا بارد، فتنبّه.