(المسألة الأولى): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى: الأصل فِي القضاء، ومشروعيته الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[سورة ص: ٢٦]، وقول الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [المائدة: ٤٩]، وقوله:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية [النور: ٤٨]، وقوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النِّساء: ٦٥]. وأما السنة، فما رَوَى عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ:"إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، متَّفقٌ عليه، فِي آي، وأخبارٍ سوى ذلك كثيرة، وأجمع المسلمون عَلَى مشروعية نصب القضاء، والحكم بين النَّاس. انتهى "المغني" ١٤/ ٥. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): قَالَ الموفّق رحمه الله تعالى أيضًا: إن القضاء منْ فروض الكفايات؛ لأن أمر النَّاس لا يستقيم بدونه، فكان واجبا عليهم كالجهاد، والإمامة، قَالَ أحمد: رحمه الله تعالى: لابد للناس منْ حاكم، أتذهب حقوق النَّاس، وفيه فضل عظيم لمن قوي عَلَى القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجرا مع الخطإ، وأسقط عنه حكم الخطإ، ولأن فيه أمرا بالمعروف، ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، وردّا للظالم عن ظلمه، وإصلاحا بين النَّاس، وتخليصا لبعضهم منْ بعض، وذلك منْ أبواب القُرَب، ولذلك تولاه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم، وبعث عليا إلى اليمن قاضيا، وبعث أيضًا معاذا قاضيا، وَقَدْ رُوي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قَالَ:"لأن أجلس قاضيا بين اثنين، أحب إلى منْ عبادة سبعين سنة"، وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قَالَ: جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ:"اقض بينهما"، قلت: أنت أولى بذلك، قَالَ: وإن كَانَ، قلت علام أقضي؟ قَالَ:"اقض فإن أصبت ذلك عشرة أجور، وإن أخطأت ذلك أجر واحد"، رواه سعيد فِي "سننه".
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: لكن فِي سنده -كما قَالَ فِي "الفتح"-. ضعف، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
قَالَ: وفيه خطر عظيم، ووزر كبير، لمن لم يؤد الحق فيه، ولذلك كَانَ السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون عَلَى أنفسهم خطره، قَالَ خاقان ابن عبد الله: أُريدَ أبو قلابة عَلَى قضاء البصرة، فهرب إلى اليمامة، فأريد عَلَى قضائها،