فهرب إلى الشام، فأريد عَلَى قضائها، وقيل: ليس هاهنا غيرك، قَالَ: فأنزلوا الأمر عَلَى ما قلتم، فإنما مثلي مثل سابح وقع فِي البحر، فسبح يومه، فانطلق، ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضًا، فلما كَانَ اليوم الثالث فترت يداه. وكان يقال: أعلم النَّاس بالقضاء أشدهم له كراهة، ولعظم خطره قَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "منْ جُعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسن. وقيل فِي هَذَا الْحَدِيث: إنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء، وإنما وصفه بالمشقة، فكأن منْ وليه قد حمل عَلَى مشقة كمشقة الذبح. انتهى "المغني" ١٤/ ٥ - ٧. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): النَّاس فِي القضاء عَلَى ثلاثة أضرب: [الأول]: منْ لا يجوز له الدخول فيه، وهو منْ لا يحسنه، ولم تجتمع فيه شروطه، فقد رُوي عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ:"القضاة ثلاثة … " ذكر منهم رجلاً قضى بين النَّاس بجهل، فهو فِي النار، ولأن منْ لا يحسنه لا يقدر عَلَى العدل فيه، فيأخذُ الحق منْ مستحقه، فيدفعه إلى غيره.
[الثاني]: منْ يجوز له، ولا يجب عليه، وهو منْ كَانَ منْ أهل العدالة والاجتهاد، ويوجد غيره مثله، فله أن يلي القضاء بحكم حاله، وصلاحيته ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له، وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه؛ لما فيه منْ الخطر والغرر، وفي تركه منْ السلامة، ولما ورد فيه منْ التشديد والذم، ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي، وَقَدْ أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه، وَقَالَ أبو عبد الله بن حامد، إن كَانَ رجلاً خاملا لا يُرجع إليه فِي الأحكام، ولا يُعرَف، فالأولى له توليه؛ لِيُرجَع إليه فِي الأحكام، ويقوم به الحق، وينتفع به المسلمون، وإن كَانَ مشهورا فِي النَّاس بالعلم، يرجع إليه فِي تعليم العلم والفتوى، فالأولى الاشتغال بذلك؛ لما فيه منْ النفع مع الأمن منْ الغرر، ونحو هَذَا قَالَ أصحاب الشافعيّ، وقالوا أيضًا: إذا كَانَ ذا حاجة، وله فِي القضاء رزق، فالأولى له الاشتغال به، فيكون أولى منْ سائر المكاسب؛ لأنه قربة وطاعة، وعلى كل حال فإنه يكره للإنسان طلبه، والسعي فِي تحصيله؛ لأن أنسا -رضي الله عنه- رَوَى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ:"منْ ابتغى القضاء، وسأل فيه شفعاء، وُكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده"، قَالَ الترمذيّ: هَذَا حديث حسن غريب، وَقَالَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة:"يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أعطيتها منْ غير مسألة أعنت عليها". متَّفقٌ عليه.
[الثالث]: منْ يجب عليه، وهو منْ يصلح للقضاء، ولا يوجد سواه، فهذا يتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية، لا يقدر عَلَى القيام به غيره، فيتعين عليه، كغسل الميت