أبي هريرة -رضي الله عنه-، مرفوعًا:"لا يلج النار رجلٌ بكى منْ خشية الله، حَتَّى يعود اللبن فِي الضرع، ولا يجتمع غبار فِي سبيل الله، ودخان جهنّم فِي منخري مسلم أبدًا".
وبالجملة فالحديث عظيم الفائدة، جسيم العائدة، قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا الْحَدِيث جدير بأن يُنْعَم فيه النظر، وُيستخرج ما فيه منْ اللطائف، والعِبَر، والله الموفّق الملهم. انتهى "المفهم" ٣/ ٧٧. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): فِي اختلاف الرواية فِي قوله: "حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، كما هو عند الشيخين:
قَالَ فِي الفتح": هكذا وقع فِي معظم الروايات فِي هَذَا الْحَدِيث فِي البخاريّ وغيره، ووقع فِي "صحيح مسلم" مقلوبا: "حَتَّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله"، وهو نوع منْ أنواع علوم الْحَدِيث، أغفله ابن الصلاح، وإن كَانَ أفرد نوع المقلوب، لكنه قصره عَلَى ما يقع فِي الإسناد، ونبه عليه شيخنا -يعني البلقينيّ- فِي "محاسن الاصطلاح"، ومثل له بحديث: "إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل"، وَقَدْ قدمنا الكلام عليه فِي "كتاب الأذان"، وَقَالَ شيخنا: ينبغي أن يسمى هَذَا النوع المعكوس. انتهى.
قَالَ الحافظ: والأولى تسميته مقلوبا، فيكون المقلوب تارة فِي الإسناد، وتارة فِي المتن كما قالوه فِي المدرج سواء، وَقَدْ سماه بعض منْ تقدّم مقلوبا، قَالَ عياض: هكذا فِي جميع النسخ التي وصلت إلينا منْ "صحيح مسلم"، وهو مقلوب، والصواب الأول، وهو وجه الكلام؛ لأن السنة المعهودة فِي الصدقة إعطاؤها باليمين، وَقَدْ ترجم عليه البخاريّ فِي "الزكاة" - "باب الصدقة باليمين"، قَالَ: ويشبه أن يكون الوهم فيه ممن دون مسلم، بدليل قوله فِي رواية مالك، لَمّا أوردها عقب رواية عبد الله بن عمر، فَقَالَ بمثل حديث عبيد الله، فلو كانت بينهما مخالفة لبينها، كما نبه عَلَى الزيادة فِي قوله: "ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حَتَّى يعود إليه". انتهى.
قَالَ الحافظ: وليس الوهم فيه ممن دون مسلم، ولا منه، بل هو منْ شيخه، أو منْ شيخ شيخه يحيى القطّان، فإن مسلما أخرجه، عن زهير بن حرب، وابن نمير كلاهما عن يحيى، وأشعر سياقه بأن اللفظ لزهير، وكذا أخرجه أبو يعلى فِي "مسنده" عن زهير، وأخرجه الجوزقى فِي "مستخرجه" عن أبي حامد بن الشرقي، عن عبد الرحمن ابن بشر بن الحكم، عن يحيى القطّان كذلك، وعَقّبَه بأن قَالَ: سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول: يحيى القطّان عندنا واهم فِي هَذَا، إنما هو: "حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه".