يقول الله تعالى للمؤمنين به وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- منْ أهل الكتاب: يفعل بكم ربّكم هَذَا لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون عَلَى شيء منْ فضل الله الذي آتاكم، وخصّكم به؛ لأنهم كانوا يرون أن الله قد فضلهم عَلَى جميع الخلق، فأعلمهم الله تعالى أنه قد آتى أمة محمّد -صلى الله عليه وسلم- منْ الفضل والكرامة ما لم يؤتهم، وأن أهل الكتاب حسدوا المؤمنين لما نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} الآية، فَقَالَ عزّ وجلّ: فعلت ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون عَلَى شيء منْ فضل الله. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله تعالى.
وَقَالَ أيضًا: وقيل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} إنما هو ليعلم، وذُكر أن ذلك فِي قراءة عبد الله:"لكي يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون"؛ لأن العرب تجعل "لا" صلة فِي كلّ كلام دخل فِي أوله، أو آخره جحد غير مصرّح، كقوله فِي الجحد السابق الذي لم يُصرّح به:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، وقوله:{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وقوله:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي منْ معنى التشبّه هنا أنه تشبّههم فِي دعوى الإيمان, وذلك أنهم يقولون: نحن مؤمنون كما آمنتم، فيكون لنا أجر كأجركم، ويوضّح ذلك ما ذُكر فِي سبب نزول الآية، وذلك أنه لما سمع منْ لم يؤمن منْ أهل الكتاب قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} قالوا للمسلمين: أمّا منْ آمن منا بكتابكم، فله أجره مرّتين؛ لإيمانه بكتابنا وكتابكم، ومن لم يؤمن بكتابكم، فله أجرٌ كأجركم، فبأيّ شيء فُضّلتم علينا، فأنزل الله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية (١).
ووقع فِي "تفسير ابن جرير الطبريّ" ٢٣/ ٢١٤: "الذين يتسمّعون"، فإن صحّت هذه اللفظة، فالمعنى عليها واضح، فـ"يتسمّعون" منْ التسمّع مبالغة فِي السماع، يعني الذين يسمعون هذه الآية عند نزولها للمسلمين.
وقوله:({أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} الآيَةَ [الحديد: ٢٩]) قَالَ البيضاويّ: والمعنى أنهم لا ينالون شيئًا مما ذُكر منْ فضله، ولا يتمكنون منْ نيله؛ لأنهم لم يؤمنوا برسوله، وهو مشروط بالإيمان به. أو لا يقدرون عَلَى شيء منْ فضل الله فضلاً عن أن يتصرّفوا فِي أعظمه، وهو النبوّة، فيخصّوا بها منْ أرادوا، ويؤيده قوله: