(فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) أي خصمه، فهو أخوّة بالمعنى الأعمّ، وهو الجنس؛ لأن المسلم، والذمي، والمعاهد، والمرتد، فِي هَذَا الحكم سواء، فهو مُطّرد فِي الأخ منْ النسب، ومن الرضاع، وفي الدين، وغير ذلك، ويحتمل أن يكون تخصيص الأخوة بالذكر منْ باب التهييج، وفي رواية البخاريّ:"بحق مسلم".
(شَيْئًا) هكذا بالنصب، وكأنه ضمن "قضيت" معنى "أعطيت"، وفي رواية مالك، ومعمر:"فمن قضيت له بشيء منْ حق أخيه"، ووقع عند أبي داود بلفظ:"فمن قضيت له منْ حق أخيه بشيء، فلا يأخذه"، وفي رواية عبد الله بن رافع، عند الطحاوي، والدارقطني:"فمن قضيت له بقضية، أراها يقطع بها قطعة ظلما، فإنما يقطع له بها قطعة منْ نار إسطامًا، يأتي بها فِي عنقه يوم القيامة"، و"الإسطام" -بكسر الهمزة، وسكون السين المهملة، والطاء المهملة-: قطعة فكأنها للتأكيد. أفاده فِي "الفتح".
(فَلَا يَأْخُذْهُ) أي لكونه حرامًا، يستحقّ به العقاب، كما بيّنه بقوله (فَإِنَّمَا أَقْطَعُهُ بِهِ) أي أقطع له بسببه، فالكلام منْ باب الحذف والإيصال (قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) ولفظ البخاريّ: "فإنما هي قطعة منْ النار"، وقوله:"فانما هي": الضمير للحالة، أو القصة. وقوله:"قطعة منْ النار": أي الذي قضيت له به بحسب الظاهر، إذا كَانَ فِي الباطن لا يستحقه، فهو عليه حرام، يئول به إلى النار. وقوله:"قطعة منْ النار": تمثيل يُفهم منه شدة التعذيب عَلَى منْ يتعاطاه، فهو منْ مجاز التشبيه، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}[النِّساء: ١٠].
زاد فِي رواية البخاريّ منْ طريق صالح، عن ابن شهاب:"فليأخذها، أو ليتركها"، وفي رواية يونس:"فليحملها، أو ليذرها"، وفي رواية مالك، عن هشام:"فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة منْ النار".
قَالَ الدارقطنيّ: هشام، وإن كَانَ ثقة، لكن الزهريّ احفظ منه، وحكاه الدارقطنيّ عن شيخه أبي بكر النيسابوري. قَالَ الحافظ: ورواية الزهريّ ترجع إلى رواية هشام، فإن الأمر فيه للتهديد، لا لحقيقة التخيير، بل هو كقوله:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: ٢٩]. قَالَ ابن التين: هو خطاب للمقضي له، ومعناه: أنه أعلم منْ نفسه، هل هو مُحِقّ، أو مبطل، فإن كَانَ محقا فليأخذ، وإن كَانَ مبطلا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كَانَ عليه.
[تنبيه]: زاد عبد الله بن رافع، فِي آخر الْحَدِيث:"فبكى الرجلان، وَقَالَ كل منهما حقي لك، فَقَالَ لهما النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: أمّا إذا فعلتما، فاقتسما، وتَوّخّيا الحق، ثم استهما، ثم تحاللا". ذكره فِي "الفتح" ١٥/ ٨٠. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع