قَالَ القرطبيّ: وَقَدْ شاهدت بعض الممخرقين، وسمعنا منهم أنهم يُعرضون عن القواعد الشرعيّة، ويحكمون بالخواطر القلبيّة، ويقول: الشاهد المتّصل بي أعدل منْ الشاهد المنفصل عنّي، وهذه مخرقةٌ أبرزتها زندقة، يُقتَل صاحبها, ولا يُستتاب منْ غير شكّ، ولا ارتياب. وهذا خير البشر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول فِي مثل هَذَا الموطن:"إنما أنا بشر"، معترفًا بالقصور عن إدراك المغيّبات، وعاملاً بما نصبه الله تعالى له منْ الأيمان والبيّنات. انتهى كلام القرطبيّ- "المفهم" ٥/ ١٥٣ - ١٥٤.
(وَلَعَلَّ) بمعنى "عسى"(بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) أي أفطن لها، وأعرف بها، أو أقدر عَلَى بيان مقصوده، وأبين كلامًا، قَالَ ابن الأثير: اللحْنُ: الميل عن جهات الاستقامة، يقال: لَحَنَ فِي كلامه: إذا مال عن صحيح المنطق. وأراد: إن بعضكم يكون أعرف بالحجة، وأفطن لها منْ غيره. ويقال: لَحَنتُ لفلان: إذا قلتَ له قولاً يفهمه عنك، ويخفى عَلَى غيره؛ لأنك تُميله بالتورية عن الواضح المفهوم، ومنه لَحِنَ الرجل، فهو لَحِنٌ، منْ تعب: إذا فهم، وفطِنَ لما لا يَفْطَنُ له غيره. انتهى "النهاية" ٤/ ٢٤١.
وَقَالَ الفيّوميّ: اللحَنُ -بفتحين-: الفِطنة، وهو مصدر، منْ باب تعب، والفاعل لَحِنٌ، ويتعدّى بالهمزة، فيقال: ألحنته عنّي، فلَحِن: أي أفطنته، ففطِن، وهو سُرعة الفهم، وهو ألحن منْ زيد: أي أسبق فهما منه. انتهى. وَقَالَ فِي "القاموس": ولحَن له: قَالَ له قولاً يفهمه عنه، ويخفى عَلَى غيره، ولحَنَ إليه: مال، وألحنه القول: أفهمه إيّاه، فلَحِنه، كسمِعه، وجعَله: فهمه، ولَحِنَ كفرِح: فَطِنَ لحجّته، وانتبه. انتهى.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: يفهم مما سبق أن اللَّحَنَ بمعنى الفِطنة للحجة بالكسر منْ باب تعب، وأما بمعنى الفهم، فهو منْ بابي سمع، وجعل، وَقَدْ ذكر القرطبيّ فِي "المفهم" ٥/ ١٥٥ جواز فتح الماضي وكسره إذا كَانَ بمعنى الفطنة، وفيه نظرٌ، فتنبّه. والله تعالى أعلم.
وَقَدْ جاء هَذَا اللفظ مفسّرًا فِي رواية للبخاريّ، حيث قَالَ:"فلعلّ بعضكم أن يكون أبلغ منْ بعض": أي أكثر بلاغةً، وإيضاحًا لحجته. زاد فِي رواية البخاريّ:"فأحسب أنه صادقٌ، فأقضي له بذلك".
وقوله:"فأحسب أنه صادق": هَذَا يؤذن أن فِي الكلام حذفا تقديره: وهو فِي الباطن كاذب، وفي رواية معمر:"فأظنه صادقا"، وقوله:"فأقضي له بذلك"، فِي رواية أبي داود منْ طريق الثوري:"فأقضي له عليه عَلَى نحوٍ مما أسمع"، ومثله فِي رواية أبي معاوية، وفي رواية عبد الله بن رافع:"إني انما أقضي بينكم برأيي، فيما لم يُنزل عليّ فيه".