السياق، وهو ضعيف، وأول حديثه يقتضي أن أبا سفيان لم يكن معها، وآخره يدلّ عَلَى أنه كَانَ حاضرا، لكن يحتمل أن يكون كل منهما توجه وحده، أو أرسل إليه لما اشتكت منه، ويؤيد هَذَا الاحتمال الثاني، ما أخرجه الحاكم فِي "تفسير الممتحنة" منْ "المستدرك" عن فاطمة بنت عتبة، أن أبا حذيفة بن عتبة ذهب بها، وبأختها هند يبايعان، فلما اشترط:"ولا يسرقن"، قالت هند: لا أبايعك عَلَى السرقة، إني أسرق منْ زوجي، فكفّ، حَتَّى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه، فَقَالَ: أما الرطب فنعم، وأما اليابس فلا.
قَالَ الحافظ: والذي يظهر لي أن البخاريّ لم يرد أن قصة هند كانت قضاء عَلَى أبي سفيان، وهو غائب، بل استدل بها عَلَى صحة القضاء عَلَى الغائب، ولو لم يكن ذلك قضاء عَلَى غائب بشرطه، بل لما كَانَ أبو سفيان غير حاضر معها فِي المجلس، وأذن لها أن تأخذ منْ ماله بغير إذنه قدر كفايتها، كَانَ فِي ذلك نوع قضاء عَلَى الغائب، فيحتاج منْ منعه أن يجيب عن هَذَا.
وقد انبنى عَلَى هَذَا خلاف يتفرع منه، وهو أن الأب إذا غاب، أو امتنع منْ الإنفاق عَلَى ولده الصغير، أذن القاضي للأم إذا كانت فيها أهلية ذلك فِي الأخذ منْ مال الأب، إن أمكن، أو فِي الاستقراض عليه، والإنفاق عَلَى الصغير، وهل لها الاستقلال بذلك بغير إذن القاضي وجهان، ينبنيان عَلَى الخلاف فِي قصة هند، فإن كانت إفتاءً جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاء، فلا يجوز إلا بإذن القاضي.
ومما رُجّح به أنه كَانَ قضاء لا فتيا التعبير بصفة الأمر، حيث قَالَ لها:"خذي"، ولو كَانَ فتيا لقال مثلا: لا حرج عليك، إذا أخذت، ولأن الأغلب منْ تصرفاته -صلى الله عليه وسلم- إنما هو الحكم.
ومما رُجّح به أنه كَانَ فتوى، وقوع الاستفهام فِي القصة فِي قولها:"هل عليّ جناح"، ولأنه فَوّض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كَانَ قضاء لم يفوضه إلى المدعي، ولأنه لم يستحلفها عَلَى ما ادعته، ولا كلفها البينة.
والجواب أن فِي ترك تحليفها، أو تكليفها البينة حجةً لمن أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- علم صدقها فِي كل ما ادعت به، وعن الاستفهام أنه لا استحالة فيه منْ طالب الحكم، وعن تفويض قدر الاستحقاق أن المراد الموكول إلى العرف، كما تقدّم. انتهى ما فِي "الفتح" كتاب النفقات" ١٠/ ٣٦٩ - ٦٤٠.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما ذهب إليه الجمهور منْ جواز القضاء عَلَى الغائب، وأن الاستدلال بحديث الباب صحيح، كما صنعه البخاريّ، والمصنّف، وقبلهما الشافعيّ رحمهم الله تعالى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.