قَالَ الحافظ: والذي يظهر لي أن مراد البخاريّ بهذه الترجة الرد عَلَى منْ أَوّل النهي عن الخليطين بأحد تأويلين: [أحدهما]: حمل الخليط عَلَى المخلوط، وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلا قد اشتد، ونبيذ زبيب وحده مثلا قد اشتد، فيخلطان ليصيرا خلا، فيكون النهي منْ أجل تعمد التخليل، وهذا مطابق للترجمة منْ غير تكلف. [ثانيهما]: أن يكون علة النهي عن الخلط الإسرافُ فيكون كالنهي عن الجمع بين إدامين، ويؤيد الثاني قوله فِي الترجمة:"وأن لا يجعل إدامين فِي إدام"، وَقَدْ حكى أبو بكر الأثرم عن قوم: أنهم حملوا النهي عن الخليطين عَلَى الثاني، وجعلوه نظير النهي عن الْقِرَانِ بين التمر كما تقدّم فِي الأطعمة، قالوا: فإذا ورد النهي عن القِرَان بين التمرتين، وهما منْ نوع واحد، فكيف إذا وقع القِران بين نوعين، ولهذا عبر البخاريّ بقوله:"منْ رأى"، ولم يجزم بالحكم.
وَقَدْ نصر الطحاوي مَن حمل النهي عن الخليطين عَلَى منع السرف، فَقَالَ: كَانَ ذلك لما كانوا فيه منْ ضيق العيش، وساق حديث ابن عمر فِي النهي عن القران بين التمرتين، وتُعُقّب بأن ابن عمر أحد منْ رَوَى النهي عن الخليطين، وكان ينبذ البسر، فإذا نظر إلى بسرة فِي بعضها ترطيب قطعه؛ كراهة أن يقع فِي النهي، وهذا عَلَى قاعدتهم يُعتمد عليه؛ لأنه لو فهم أن النهي عن الخليطين كالنهي عن القرآن لما خالفه، فدل عَلَى أنه عنده عَلَى غيره.
ثم أورد البخاريّ حديث أنس -رضي الله عنه- الذي تقدّم شرحه فِي الباب الماضي، وفيه أنه سقاهم خليط بسر وتمر، فدل عَلَى أن المراد بالنهي عن الخليطين، ما كانوا يصنعونه قبل ذلك منْ خلط البسر بالتمر، ونحو ذلك؛ لأن ذلك عادة يقتضى إسراع الإسكار، بخلاف المنفردين، ولا يمكن حمل حديث أنس -رضي الله عنه- هَذَا فِي الخليطين عَلَى ما ادّعاه صاحب التأويل الأول، وحَمْلُ علة النهي لخوف الإسراع أظهرُ منْ حملها عَلَى الإسراف؛ لأنه لا فرق بين نصف رطل منْ تمر، ونصف رطل منْ بسر، إذا خلطا مثلاً، وبين رطل منْ زبيب صِرْفٍ، بل هو أولى لقلة الزبيب عندهم، إذ ذاك بالنسبة إلى التمر والرُّطَب، وَقَدْ وقع الإذن بأن يُنبَذَ كلُّ واحد عَلَى حِدة، ولم يفرق بين قليل وكثير، فلو كانت العلة الإسرافَ لما أطلق ذلك.
وحكى الطحاوي فِي "اختلاف العلماء" عن الليث، قَالَ: لا أرى بأسا أن يُخلط نبيذ التمر ونبيذ الزبيب، ثم يشربان جميعاً، وإنما جاء النهي أن يُنبذا جميعاً ثم يشربا؛ لأن أحدهما يشتد به صاحبه. انتهى "فتح" ١١/ ١٩٥ - ١٩٦. والله تعالى أعلم بالصواب.