وأما الطحاوي، وسفيان، لو صح ذلك عنهما لم يحتج بهما، عَلَى منْ خالفهما منْ الأئمة، فِي تحريم المسكر، مع ما ثبت منْ السنة، عَلَى أن الطحاوي قد ذكر فِي كتابه الكبير فِي الاختلاف، خلاف ذلك، قَالَ أبو عمر بن عبد البر فِي كتاب "التمهيد" له: قَالَ أبو جعفر الطحاوي: اتفقت الأمة عَلَى أن عصير العنب، إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد فهو خمر، ومستحله كافر، واختلفوا فِي نقيع التمر إذا غلى، وأسكر، قَالَ فهذا: يدلك عَلَى أن حديث يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أنه قَالَ:"الخمر منْ هاتين الشجرتين: النخلة، والعنب" غير معمول به عندهم؛ لأنهم لو قبلوا الْحَدِيث لأكفروا مستحل نقيع التمر، فثبت أنه لم يدخل فِي الخمر المحرمة، غير عصير العنب الذي قد اشتد، وبلغ أن يسكر، قَالَ: ثم لا يخلو منْ أن يكون التحريم معلقا فقط، غير مقيس عليها غيرها، أو يجب القياس عليها، فوجدناهم جميعاً قد قاسوا عليها نقيع التمر، إذا غلى وأسكر كثيره، وكذلك نقيع الزبيب، قَالَ: فوجب قياسا عَلَى ذلك أن يحرم كل ما أسكر منْ الأشربة، قَالَ: وَقَدْ رُوي عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أنه قَالَ:"كل مسكر حرام"، واستغنى عن مسنده لقبول الجميع له، وإنما الخلاف بينهم فِي تأويله، فَقَالَ بعضهم: أراد به جنس ما يُسكر، وَقَالَ بعضهم: أراد به ما يقع السكر عنده، كما لا يسمى قاتلا، إلا مع وجود القتل.
قَالَ القرطبيّ: فهذا يدلّ عَلَى أنه محرم عند الطحاوي؛ لقوله: فوجب قياسا عَلَى ذلك أن يحرم كل ما أسكر منْ الأشربة. وَقَدْ رَوَى الدارقطنيّ فِي "سننه" عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، وإنما حرمها لعاقبتها، فكل شراب يكون عاقبته كعاقبة الخمر، فهو حرام كتحريم الخمر.
قَالَ ابن المنذر: وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة، وإذا اختلف النَّاس فِي الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وما رُوي عن بعض التابعين أنه شرب الشراب الذي يُسكر كثيره، فللقوم ذنوب يستغفرون الله منها, وليس يخلو ذلك منْ أحد معنيين: إما مخطىء أخطأ فِي التأويل، عَلَى حديث سمعه، أو رجل أتى ذنبا لعله أن يكثر منْ الاستغفار لله تعالى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الله عَلَى الأولين والآخرين، منْ هذه الأمة، وَقَدْ قيل فِي تأويل الآية: إنها إنما ذُكرت للاعتبار: أي منْ قدر عَلَى خلق هذه الأشياء، قادر عَلَى البعث، وهذا الاعتبار لا يختلف بأن كانت الخمر حلالا أو حراما، فاتخاذ السكر لا يدلّ عَلَى التحريم، وهو كما قَالَ تعالى:{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[البقرة: ٢١٩] والله أعلم. انتهى "الجامع لأحكام القرآن" ١٠/ ١٢٧ - ١٣٣. وهو