وَقَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: قوله: "الخمر منْ هاتين الشجرتين": حجة للجمهور عَلَى تسمية ما يُعتصر منْ غير العنب بالخمر إذا أسكر، كما قدّمناه، ولا حجة فيه لأبي حنيفة عَلَى قوله، حيث قصر الحكم بالتحريم عَلَى هاتين الشجرتين؛ لأنه قد جاء فِي أحاديث أُخَر ما يقتضي تحريم كلّ ما أسكر، كقوله:"كل مسكر حرام"، و"كل ما أسكر حرام"، وحديث معاذ -رضي الله عنه- حيث سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شراب العسل، والذرة، والشعير؟ فَقَالَ:"أنهى عن كلّ مسكر"، وإنما خصّ فِي هَذَا الْحَدِيث هاتين الشجرتين بالذكر؛ لأن أكثر الخمر منهما، أو عَلَى أن الخمر عند أهلها، والله أعلم، وهذا نحو قولهم: المال الإبل: أي أكثرها، وأعمّها. انتهى "المفهم" ٥/ ٢٥٧ - ٢٥٨.
وقوله: (وَقَالَ سُوَيْدْ: "فِي هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ) يعني أن رواية سويد بن نصر بلفظ: "فِي هاتين" بدل "منْ هاتين"، وقوله: (النَّخْلَةُ والْعِنَبَةُ") بالجرّ عَلَى البدليّة، ويجوز الرفع بتقدير مبتدإ: أي هما، والنصب بتقدير فعل: أي أعني. وفي رواية لمسملم:"الكرمة، والنخلة"، وفي رواية له:"الكرم والنخل". قَالَ القرطبيّ رحمه الله تعالى: هَذَا يُشكل مع قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقولوا للعنب الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن"، رواه مسلم. ويزول الإشكال بأن نقول: إطلاق هَذَا كَانَ قبل النهي، ثم بعد ذلك ورد النهي، أو يقال: إنه -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل فِي هَذَا الخطاب، فإنه قَالَ فيه:"ولا تقولوا"، فواجهنا به، والمخاطِبُ غير المخاطَبِ، كما تقرّر فِي الأصول. انتهى "المفهم" ٥/ ٢٥٨.
وَقَالَ النوويّ رحمه الله تعالى: يحتمل أن هَذَا الاستعمال كَانَ قبل النهي، ويحتمل أنه استعمله بيانًا للجواز، وأن النهي عنه ليس للتحريم، بل لكراهة التنزيه، ويحتمل أنهم خوطبوا به للتعريف؛ لأنه المعروف فِي لسانهم الغالب فِي استعمالهم. انتهى "شرح مسلم" ١٣/ ١٥٤. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الْحَدِيث:
(المسألة الأولى): فِي درجته:
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- هَذَا أخرجه مسلم.
(المسألة الثانية): فِي بيان مواضع ذكر المصنّف له، وفيمن أخرجه معه: