ملك، كما يجده الإنسان فِي بيته، ولا يدري هل هو له أو لغيره، فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوله؛ لأن الظاهر أن ما فِي بيته ملكه؛ لثبوت يده عليه، والورع اجتنابه، فقد قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إنى لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة عَلَى فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون منْ الصدقة، فألقيها"، متّفقٌ عليه.
فإن كَانَ هناك منْ جنس المحظور، وشك هل هو منه أم لا، قويت الشبهة، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أصابه أَرَقٌ منْ الليل، فَقَالَ له بعض نسائه: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أَرِقتَ الليلة؟ فَقَالَ:"إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي فأكلتها، وكان عندنا تمر منْ تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه".
ومن هَذَا أيضًا ما أصله الإباحة، كطهارة الماء، والثوب، والأرض، إذا لم يتيقن زوال أصله، فيجوز استعماله، وما أصله الحظر، كالأبضاع، ولحوم الحيوان، فلا تحل إلا بيقين حله، منْ التذكية، والعقد، فإن تردد فِي شيء منْ ذلك؛ لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل، فيبنى عليه، فيتبين فيما أصله الحرمة عَلَى التحريم، ولهذا نهى النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن أكل الصيد، الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع فِي ماء، وعلل بأنه لا يدري هل مات منْ السبب المبيح له، أو منْ غيره، فيرجع فيما أصله الحل إلى الحل، فلا ينجس الماء، والأرض، والثوب بمجرد ظن النجاسة، وكذلك البدن، إذا تحقق طهارته، وشك هل انتقضت بالحدث، عند جمهور العلماء؛ خلافا لمالك رحمه الله، إذا لم يكن قد دخل فِي الصلاة، وَقَدْ صح عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، أنه شكا إليه الرجل يُخَيَّل إليه أنه يجد الشيء فِي الصلاة؟ فَقَالَ:"لا تنصرف حَتَّى تسمع صوتا، أو تجد ريحا"، وفي بعض الروايات:"فِي المسجد" بدل "الصلاة"، وهذا يعم حال الصلاة وغيرهما.
فإن وجد سببا قويا يغلب معه عَلَى الظن نجاسة ما أصله الطهارة، مثل أن يكون الثوب يلبسه كافر، لا يتحرز منْ النجاسات، فهذا محل اشتباه، فمن العلماء منْ رخص فيه، آخذا بالأصل، ومنهم منْ كرهه تنزيها، ومنهم منْ حرمه، إذا قوي ظن النجاسة، مثل أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته، أو يكون ملاقيا لعورته، كالسراويل، والقميص، وترجع هذه المسائل، وأشباهها إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل الطهارة، والظاهر النجاسة، وَقَدْ تعارضت الأدلة فِي ذلك.
فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنما يصفعونه بأيديهم فِي أوانيهم، وَقَدْ أجاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- دعوة يهودي، وكان هو وأصحابه يلبسون، ويستعملون ما يجلب إليهم مما ينسجه الكفار بأيديهم منْ الثياب، والأواني،