للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ولما شك ناس فِي موته -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ عمه العبّاس رضي الله عنه: "والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حَتَّى ترك السبيل نهجا واضحا، وأحل الحلال، وحرم الحرام، ونكح، وطلق، وحارب، وسالم، وما كَانَ راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال، يخبط عليها العِضَاه بمخبطته، ويَمدُر حوضها بيده، أنصب ولا أدأب منْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كَانَ فيكم".

وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالا إلا مبينا، ولا حراما إلا مبينا، لكن بعضه كَانَ أظهر بيانا منْ بعض، فما ظهر بيانه، واشتهر، وعُلم منْ الدين بالضرورة منْ ذلك، لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله فِي بلد، يظهر فيها الإِسلام، وما كَانَ بيانه دون ذلك فمنه ما يَشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء عَلَى حله أو حرمته، وَقَدْ يخفى عَلَى بعض منْ ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضًا، فاختلفوا فِي تحليله وتحريمه، وذلك لأسباب: [منها]: أنه قد يكون النص عليه خفيا، لم ينقله إلا قليل منْ النَّاس، فلم يبلغ جميع حملة العلم. [ومنها]: أنه قد يُنقَل فيه نصان: أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معا منْ لا يبلغه التاريخ فيقف؛ لعدم معرفته بالناسخ والمنسوخ. [ومنها]: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ منْ عموم، أو مفهوم، أو قياس، فتختلف أفهام العلماء فِي هَذَا كثيرا. [ومنها]: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف العلماء فِي حمل الأمر عَلَى الوجوب، أو الندب، وفي حمل النهي عَلَى التحريم، أو التنزيه، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا، ومع هَذَا فلابد فِي الأمة منْ عالم يوافق الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبها عليه، ولا يكون عالما بهذا، فإن هذه الأمة لا تجتمع عَلَى ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها عَلَى أهل حقها، فلا يكون الحق مهجورا، غير معمول به فِي جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قَالَ -صلى الله عليه وسلم- فِي المشتبهات: "لا يعلمهن كثير منْ النَّاس"، فدل عَلَى أن منْ النَّاس منْ يعلمها، وإنما هي مشتبهة عَلَى منْ لم يعلمها، وليست مشتبهة فِي نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء، عَلَى كثير منْ العلماء، وَقَدْ يقع الاشتباه فِي الحلال والحرام، بالنسبة إلى العلماء وغيرهم منْ وجه آخر، وهو أن منْ الأشياء ما يُعلم سبب حله، وهو الملك المتيقن، ومنها ما يعلم سبب تحريمه، وهو ثبوت ملك الغير عليه.

فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللَّهم إلا فِي الأبضاع عند منْ يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك، أو إذا غلب عَلَى الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه.

والثاني لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه، وأما ما لا يعلم له أصل