وقوله:(وَلَا تُحرِّمُهُ: الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ) يعني أنه فسّر له قوله: "ولا تحرمه" بأنه رَدّ عَلَى منْ يقول: يجب الوضوء عَلَى منْ أكل ما مسّته النار؛ فإن الشيء قبل مسّ النار لا يوجب الوضوء اللاحق، ولا يُبطل الوضوء السابق، فلو كَانَ بعد مسّ النار موجبًا للوضوء اللاحق، ومبطلًا للوضوء السابق، لكان ذلك بمنزلة أن يقال: إن النار هي المحرّمة.
قَالَ السنديّ رحمه الله تعالى بعد أن ذكر ما سبق: ما نصّه: وعلى هَذَا فجملة: "الوضوء مما مسّت النار" جزء منْ الْحَدِيث، وليست منْ قبيل الترجمة، كما كتبه كثير منْ الكتاب فِي نسخ الكتاب، وَقَدْ نبّه عَلَى ذلك بعض المعتنين. والله تعالى أعلم. انتهى "شرح السنديّ" ٨/ ٣٣١.
قَالَ الجامع عفا الله تعالى عنه: هَذَا الذي قاله السنديّ رحمه الله تعالى، هو الصواب الذي لا وجه لغيره فِي هَذَا الموضع، ومما يؤيّد ذلك أن الحافظ المزّي لما أورد الْحَدِيث فِي "تحفة الأشراف"، ساقه مساق المتن الواحد، ونصّه -٥/ ٩٢ - :"حديث ابن عبّاس يقول: والله ما تُحلّ النار شيئًا، ولا تحرّمه، قَالَ: ثم فسّر لي قوله: لا تحل شيئًا لقولهم فِي الطلاء، ولا تحرمه: الوضوء مما مسّت النار". انتهى.
ويوجد فِي هامش النسخة التي حققها مكتب التراث الإسلامىّ منْ "المجتبى" ٨/ ٧٣٦: ما مختصره: "وَقَدْ ذكر فِي هامش نسحة النظّاميّة أنه فِي هامش "الكبرى" كَتَبَ: قوله: "الوضوء مما مسّت النار" بخط الأصل، لا عَلَى هيئة الترجمة، وما نصّه. قوله: "الوضوء مما مسّت النار" ليس بترجمه، بل متّصلٌ بما قبله. انتهى. باختصار.
والحاصل أن كتابة قوله: "الوضوء مما مسّت النار" ترجمة تصحيف فاحش؛ لما ذكرته آنفًا، ولأن الآثار التي أوردها بعده ليس فِي شيء منها ذكر الوضوء مما مسّت النار. فتبصّر، ولا تتحيّر بالتقليد، فإنه ملجأ البليد، ومُتَمَسَّك العنيد. والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: هَذَا الأثر يدلّ على أن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما لم يصل إليه حديث: "توضّئوا مما مسّت النار"، وهو حديث صحيح، إلا أنه منسوخ، كما تقدّم بيان ذلك فِي "الطهارة"، ومما يؤيّد ذلك أن ابن عبّاس خاصم أبا هريرة رضي الله تعالى عنهم فِي ذلك، فقد تقدّم للمصنّف منْ طريق الأوزاعي، أنه سمع المطلب بن عبد الله ابن حنطب يقول: قَالَ ابن عبّاس: أتوضأ منْ طعام أجده فِي كتاب الله حلالا؛ لأن النار مسته، فجمع أبو هريرة حصى، فَقَالَ: أشهد عدد هَذَا الحصى، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-