والحاصل أن رفع اليدين في المواضع الثلاثة، قد صح من غير شك بالأحاديث الصحاح المرفوعة، والآثار الثابتة الموقوفة، وسيأتي أيضا ثبوت الرفع أيضا في القيام من التشهد الأول، وكذا تصحيح حديث الرفع عند الرفع من السجود في بابه، إن شاء الله تعالى. وأما أدلة عدم الرفع، فلا يصح شيء منها، غير حديث ابن مسعود المذكور في الباب، فقد حسنه بعضهم، وصححه بعضهم، وضعفه جمهور أهل الحديث، وهو الراجح، كما تقدم تحقيق هذا كله، وعلى تقدير ثبوته فيحمل على بيان الجواز؛ جمعًا بين الأدلّة. والله تعالى أعلم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ورَوَى رَفْعَ اليدين عنه في هذه المواطن الثلاثة نحوٌ من ثلاثين نفسا، واتفق على روايتها العشرةُ، ولم يثبت عنه خلاف ذلك البتة، بل كان ذلك هديَه دائما إلى أن فارق الدنيا، ولم يصح عنه حديث البراء:"ثم لا يعود"، بل هي من زيادة يزيد بن أبي زياد، فليس ترك ابن مسعود الرفعَ مما يُقَدَّمُ على هديه المعلوم، فقد تُرِكَ من فعل ابن مسعود في الصلاة أشياءُ، ليس مُعَارِضها مقاربا، ولا مُدانيا للرفع، فقد تُرِك من فعله التطبيقُ، والافتراشُ في السجود، ووقوفه إماما بين الاثنين في وسطهما، دون التقدم عليهما، وصلاته الفرض في البيت بأصحابه بغير أذان، ولا إقامة لأجل تأخير الأمراء، وأين الأحاديث في خلاف ذلك من الأحاديث التي في الرفع كثرةً، وصحةً، وصراحةً، وعملًا؟. وبالله التوفيق. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (١).
قال الجامع عفا الله عنه: إنما أطلت الكلام في هذا المحل لبيان أن حجج القائلين بعدم الرفع غيرُ صالحة للتمسك بها، والاعتماد عليها، وللكشف عن محاولة بعض من انتسب إلى الحديث، كالطحاوي، وابن الهمام، والعيني لرد الأحاديث الصحاح التي اتفق على صحتها أئمة السنة، وهُدَاةُ الأمة، بمثل هذه الأحاديث الضعاف، والآثار الواهية، ويبدو على بعضهم التعصب للمذهب، ومن المححر المستطير أن هؤلاء يثق بهم العوام من المقلدين أكثر من وثوقهم بقوله البخاري، ومسلم، وأمثالهما، من أهل الحديث.
فقد بلغني عن بعض من ينتسب إلى العلم منهم أنه قال: كل حديث لا يعرفه كمال ابن الهمام لا يعتمد عليه، أو كلاما قريبا من هذا المعنى. فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
(١) "زاد المعاد في هدى خير العباد" جـ ١ ص ٢١٨ - ٢١٩.