إلى وقت حضور العمل، وما ذكرتموه من إيهام اعتقاد خلاف الحق، فهو منتقض بجواز، بل وجوب تأخير الناسخ، وعدم الإشعار بأنه سينسخه، ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه، أو يرفع ظاهره، فحينئذ يعتقد موجبه كذلك، فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
يوضحه (الوجه الثامن): أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدا بعدم ورود ما يرفع ظاهره، كما يعتقد المنسوخ مؤبدا اعتقادا مقيدا بعدم ورود ما يبطله، وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه.
(الوجه التاسع): أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخا، وإن تضمن رفع الإجزاء بدونه، كما صرح بذلك بعض أصحابكم، وهو الحق، فكذلك إيجاب كل زيادة، بل أولى أن لا تكون نسخا، فإن إيجاب الشرط يرفع إجزاء المشروط عن نفسه، وعن غيره، وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة.
(الوجه العاشر): أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخا، وذلك أن الأحكام لم تشرع جملة واحدة، وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئًا بعد شيء، وكل منها زائد على ما قبله، وكان ما قبله جميع الواجب، والإثم محطوط عمن اقتصر عليه، وبالزيادة تغير هذان الحكمان، فلم يبق الأول جميع الواجب، ولم يُحَطّ الإثم عمن اقتصر عليه، ومع ذلك فليس الزائد ناسخا للمزيد عليه، إذ حكمه من الوجوب وغيره باق، فهذه الزيادة المتعلقة بالمزيد لا تكون نسخا له، حيث لم ترفع حكمه، بل هو باق على حكمه، وقد ضُمَّ إليه غيرُهُ.
يوضحه (الوجه الحادي عشر): أن الزيادة إن رفعت حكمًا خطابيا كانت نسخًا، وزيادة التغريب، وشروط الحكم، وموانعه (١) لا ترفع حكم الخطاب، وإن رفع حكم الاستصحاب.
يوضحه (الوجه الثاني عشر): أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب، وكونه مجزئا وحده، وكون الإثم محطوطا عمن اقتصر عليه إنما هو من أحكام البراءة الأصلية، فهو حكم استصحابي، لم نستفده من لفظ الأمر الأول، ولا أريدَ به، فإن معنى كون العبادة مجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها، وحط الذم عن فاعلها: معناه أنه قد خرج من عهدة الأمر، فلا يلحقه ذمّ، والزيادة -وإن رفعت هذه الأحكام- لم ترفع حكمًا دلّ عليه لفظ المزيد.
(١) هنا يوجد في النسخة كلمة: "وحراحق"، ولم يظهر لي معناها. وكتب بهامشها ما لفظه: "هكذا بكل نسخة".