والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله:"لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل"، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي، ولا عدالة الشاهدين، فهذا طرف من بيان تناقض مَنْ ردَّ السننَ بكونها زائدة على القرآن، فتكون ناسخة، فلا تقبل.
(الوجه الثاني والخمسون): إنكم تُجوّزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان: أحدهما: أنه باطل مناف للدين. والثاني: أنه صحيح مؤخر عن الكتاب والسنة، فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به، فهلّا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس.
[فإن قيل]: قد دلّ القرآن على صحة القياس، واعتباره، وإثبات الأحكام به، فما خرجنا عن موجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دلنا عليه القرآن.
[قيل]: فهلّا قلتم مثل هذا في السنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد، وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين، وعُرْضةٌ للخطأ، بخلاف قول من ضُمِنَتْ لنا العصمة في قوله، وفرض الله علينا اتباعه وطاعته.
[فإن قيل]: القياس بيان لمراد الله سبحانه وتعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من النصوص، وأنه أريد بها إثبات الحكم في المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدا على القرآن، بل تفسير له، وتبيين.
[قيل]: فهلا قلتم: إن السنة بيان لمراد الله سبحانه وتعالى من القرآن تفصيلا لما أجمله، وتبيينا لما سكت عنه، وتفسيرا لما أبهمه، فإن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإحسان والبر والتقوى، ونهى عن الظلم والفوحش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيبات، وحرم علينا الخبائث، فكل ما جاءت به السنة، فإنها تفصيل لهذا المأمور به، والمنهي عنه، والذي أَحَلَّ لنا هو الذي حَرَّمَ علينا. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى. (١)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد دافع هذا الإمام رحمه الله تعالى عن السنة دفاعا لا نظير له، وبَيَّنَ تناقضات القائلين بعدم قبول السنة الصحيحة إذا كانت زائدة على الكتاب بدعوى أن ذلك يؤدي إلى النسخ، حيث إنهم يقبلونها إذا وافقت قول إمامهم، ويلتمسون لها مخارج، وتأويلات لا رَوَاج لها عند النقد، والتحقيق، فلقد كشف -رحمه الله- عَوَارَهُم، وأبان خللهم، وفَنَّدَ أباطيلهم بما لا تجده في كتاب غيره، فجزاه الله تعالى عن السنة أحسن الجزاء.