وللنسائي من رواية زُفَر بن صعصعة، عن أبي هريرة، رفعه أنه "ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة"(١). وهذا يؤيد التأويل الأول.
وظاهر الاستثناء مع ما ثبت من أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة أن الرؤيا نبوة، وليس كذلك؛ لأن المراد تشبيه أمر الرؤيا بالنبوة، أو لأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه له، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، ولا يقال: إنه أَذَّنَ، وإن كانت جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ شيئا من القرآن، وهو قائم لا يسمى مصليا، وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة.
ويؤيده حديث أم كرز -بضم الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي- الكعبية، قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:"ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات" أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، ولأحمد عن عائشة مرفوعًا:"لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا"، وله، وللطبراني من حديث حذ يفة بن أَسِيد مرفوعا:"ذهبت النبوة، وبقيت المبشرات". ولأبي يعلى من حديث أنس، رفعه:"إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، ولا نبي، ولا رسول بعدي، ولكن بقيت المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال:"رؤيا المسلمين جزء من أجزاء النبوة".
قال المهلب: ما حاصله: التعبير بالمبشرات خرج للأغلب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة، وهي صادقة، يريها الله للمؤمن، رفقا به، ليستعدّ لما يقع قبل وقوعه.
وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي، ولا يبقى ما يُعلَم منه ما سيكون إلا الرؤيا. ويرد عليه الإلهام، فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء، كما في حديث مناقب عمر:"قد كان فيمن مضى من الأمم محدِّثون"، وفُسر المحدّثُ -بفتح الدال- بالملهم -بالفتح- أيضا، وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة، فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لكونه يشمل آحاد المؤمنين، بخلاف الإلهام، فإنه مختض بالبعض، ومع كونه مختصا فإنه نادر، فإنما ذكر المنام لشموله، وكثرة وقوعه، ويشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن يكن"، وكأن السرّ في ندور الإلهام في زمنه، وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة، وإرادة إظهار المعجزات منه، فكان المناسب أن لا يقع لغيره منه في زمانه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به، للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار وقوع ذلك مع
(١) راجع "السنن الكبرى" في "كتاب التعبير" -١/ ٧٦٢١.