للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وهذا محمول على من يَدَّعي رؤيتهم على صورتهم التي خلقوا عليها، وأما من ادّعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان، فلا يقدح فيه.

وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور. واختلف أهل الكلام في ذلك، فقيل: هو تخييل، فقط، ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية. وقيل: بل ينتقلون، لكن لا باقتدارهم على ذلك، بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر، وهذا قد يرجع إلى الأَوَّلِ، وفيه أثر عن عمر - رضي الله عنه -، أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. "إن الغيلان ذُكرُوا عند عمر، فقال: إن أحدًا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها، ولكن لهم سحرة كسحرتكم، فإذا رأيتم ذلك فأذّنوا".

وإذا ثبت وجودهم فقد اختلف في أصلهم، فقيل: إن أصلهم من ولد إبليس، فمن كان منهم كافرًا سمي شيطانًا، وقيل: إن الشياطين خاصة أولاد إبليس، ومن عداهم ليسوا من ولده، وحديث ابن عباس (١) يقوي أنهم نوع واحد من أصل واحد، واختلف صنفه، فمن كان كافرًا سمي شيطانًا، وإلا قيل له جنيّ.

وأما كونهم مكلفين، فقال ابن عبد البرّ: الجن عند الجماعة مكلفون. وقال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك، إلا ما حكَى زرقان عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم، وليسوا بمكلفين، قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين، والتحذير من شرهم، وما أعدّ لهم من العذاب، وهذه الخصال لا تكون إلا لمن خالف الأمر، وارتكب النهي مع تمكنه من أن لا يفعل، والآيات والأخبار الدّالّة على ذلك كثيرة جدا.

وإذا تقرر كونهم مكلفين، فقد اختلفوا هل كان فيهم نبي منهم، أم لا؟ فروى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك، قال: ومن قال بقول الضحّاك احتج بأن الله -تَعَالَى- أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه، وهو فاسد. انتهى.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم، ورسل الجن بثهم الله في الأرض، فسمعوا كلام الرسل من الإنس، وبلغوا قومهم، ولهذا قال قائلهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية [الأحقاف: آية:٣٠].

واحتج ابن حزم بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "وكان النبي يبعث إلى قومه"، قال: وليس الجن من


(١) يريد حديث الطويل عند الشيخين وغيرهما "انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل، بين الشياطين وبين خبر السماء. . ." الحديث ذكره البخاري في "تفسير سورة الجن".