ومنها: إباحة ربط الأسير في المسجد، لأن إرادته - صلى الله عليه وسلم - ربطه يشمل المسجد وغيره، بل جاء التصريح في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الشيخين، ولفظه:"فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد". . . ولهذا بوّب البخاري بقوله:"باب الأسير والغريم يُربَط في المسجد". والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[خاتمة]: أسأل الله -تَعَالَى- حسنها- في بحث نفيس يتعلق بالجن أختم بها هذا الباب.
كتب الحافظ رحمه الله -تَعَالَى- في شرحه الحافل الكافل "فتح الباري" عند قول الإمام البخاري رحمه الله -تَعَالَى-[باب ذكر الجن، وثوابهم وعقابهم]: ما نصه: أشار بهذه الترجمة إلى إثبات وجود الجن، وإلى كونهم مكلفين.
فأما إثبات وجودهم، فقد نقل إمام الحرمين في "الشامل" عن كثير من الفلاسفة والزنادقة والقدرية أنهم أنكروا وجودهم رأسًا، قال: ولا يتعجب ممن أنكر ذلك من غير المتشرعين، إنما العجب من المتشرعين، مع نصوص القرآن والأخبار المتواترة، قال: وليس في قضية العقل ما يقدح في إثباتهم، قال: وأكثر ما استروح إليه من نفاهم حضورهم عند الإنس بحيث لا يرونهم، ولو شاءوا لأبدوا أنفسهم، قال: وإنما يستبعد ذلك من لم يُحط علما بعجائب المقدورات.
وقال القاضي أبو بكر: وكثير من هؤلاء يثبتون وجودهم، وينفونه الآن، ومنهم من يثبتهم، وينفي تسلطهم على الإنس. وقال عبد الجبار المعتزلي: الدليل على إثباتهم السمع دون العقل، إذ لا طريق إلى إثبات أجسام غائبة، لأن الشيء لا يدلّ على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق، ولو كان إثباتهم باضطرار لما وقع الاختلاف فيه، إلا أنا قد علمنا بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتدين بإثباتهم، وذلك أشهر من أن يتشاغل بإيراده.
واختلف في صفتهم، فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: قال بعض المعتزلة: الجن أجسام رقيقة بسيطة، قال: وهذا عندنا غير ممتنع إن ثبت به سمع. وقال أبو يعلى بن الفرّاء: الجن أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، يجوز أن تكون رقيقة، وأن تكون كثيفة، خلافًا للمعتزلة في دعواهم أنها رقيقة، وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردود، فإن الرقة ليست بمانعة عن الرؤية، ويجوز أن يخفى عن رؤيتنا بعض الأجسام الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكا.
وروى البيهقي في "مناقب الشافعي" بإسناد صحيح عن الربيع، سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته، إلا أن يكون نبيا. انتهى.