قوله -تَعَالَى-: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}[الأعراف: آية: ٢٧]، فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك، وابتلاهم، ليفزعوا إليه، ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبون الأمان من غائلتهم، ولا يُنكَر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفَين من عباده بخلاف ذلك.
وقال الكرماني رحمه الله -تعَالَى-: لا حاجة إلى هذا التأويل، إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقًا، إذ المستفاد منها أن رؤيته إيانا مقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت.
ومنها: أنه يدل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعهله في وجهي". ولو كانوا باقين على عنصرهم الناري، وأنهم نار محرقة لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان بشعلة من نار، ولكانت يده، أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما تحرق النار الحقيقية الآدمي بمجرد اللمس، فدلّ على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر حتى صار إلى البرد، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى وجدت برد لسانه على يدي"، وفي رواية "برد لعابه".
ومنها: ما قيل: إن أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام كانوا يرون الجن، وهو من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم الحجة له لمكانته عليهم.
ومنها: ما قاله ابن بطال رحمه الله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي تقدم: إن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للعفريت هو مما خص به، كما خص برؤية الملائكة، وقد أخبر أن جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيطان في هذه الليلة، وأقدره الله عليه لتجسمه، لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقي في رُوعه ما وُهب سليمانُ عليه السلام، فلم ينفذ ما قوي عليه من حبسه، رغبةً عما أراد سليمانُ الانفراد به، وحرصا على إجابة الله -تَعَالَى- دعوته، وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الناس فلا يُمَكَّنُ منه، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره - صلى الله عليه وسلم -، لقوله -تَعَالَى-: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} الآية. لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية، فقتله، فمات الرجل به، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله:"إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم من هذه الهوامّ شيئًا، فآذنوه ثلاثا، فإن بدا لكم فاقتلوه". رواه الترمذي، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" من حديث أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-.
ومنها: مشروعية ربط من يُخشى هروبه بحق، أو دين، والتوثيق منه، لئلا يضيّع حقوق المسلمين.