للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

رحمه الله: هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيها مذهبان:

أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه (١)، مع اعتقاد أن الله -تَعَالَى- ليس كمثله شيء، وتنزيهه عن سمات المخلوقات.

والثاني: تأويله بما يليق به، فمن قال بهذا قال: كأن المراد امتحانها، هل هي موحّدة، تُقرّ بأن الخالق المدبر الفعّال هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء، كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء، كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين، كما أن الكعبة قبلة المصلين (٢) أم هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم، فلما قالت: "في السماء" علم أنها موحدّة، وليست عابدة للأوثان (٣).

قال الجامع عفا الله تَعَالَى عنه: ما أبعد هذا التأويل عن معنى هذا النص، وما أسمجه، وأسخفه!! فهل من عاقل يفهم لغة العرب إذا سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ "، وجواب الأمة بقولها: "في السماء" يفهم هذا التأويل منه، إن هذا لهو العجب العُجاب.

سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبَا … شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ

وبالجملة فهذا تأويل ما أنزل الله به من سلطان، ولا ذهب إليه أولوا الهداية والعرفان، فالصواب الذي عليه المُعوّل هو المذهب الأوّل، وهو الذي كان عليه سلف الأمة، الذين كان الأسوةُ بهم عينَ الرحمة، ومخالفتهم سبب الضلال والنقمة،- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أجمعين، وسلك بنا مسلكهم الأمين. آمين آمين آمين.

وقال القاضي عياض رحمه الله: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم، ومحدثهم، ومتكلميهم، ونظارهم، ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله -تَعَالَى- في السماء، كقوله -تَعَالَى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: ١٦]، ونحوه ليست على ظاهرها، بل متأولة عند جميعهم، فمن قال بإثبات جهة فوقُ من غير تحديد، ولا تكييف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين تأول "في السماء" أي على السماء، ومن قال من دُهَماء النظار والمتكلمين، وأصحاب التنزيه بنفي الحدّ، واستحالة الجهة في حقه سبحانه وتعالى


(١) إن أراد عدم الخوض في الكيفية فذاك، وإن أراد الخوض في معرفة معناه اللغوي، فغير صحيح؛ لأن مذهب السلف أنهم يعرفون معناه اللغوي، ثم يثبتون ذلك لله سبحانه على معنى يليق بجلاله، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. فتفطن، والله تعالى أعلم.
(٢) في كون السماء قبلة الدعاء نظر، إذ لا دليل عليه، بل الأدلة الكثيرة على أن الكعبة هي القبلة للصلاة والدعاء، فقد وردت أحاديث كثيرة، ستأتي في محلها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا استقبل القبلة فتبصر. والله -تَعَالَى- أعلم.
(٣) انظر "شرح مسلم" للنووي ج ٥ ص ٢٤ - ٢٥.