للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تأولها تأويلات بحسب مقتضاها، وذكر نحو ما تقدم عن النووي.

قال: وياليت شعري ما الذي جمع أهل السنة والحق كُلَّهُمْ على وجوب الإمساك عن الفكر في الذات كما أمروا، وسكتوا، لحيرة العقل، واتفقوا على تحريم التكييف، والتشكيل، وأن ذلك من وقوفهم، وإمساكهم غير شاك في الوجود والموجود، وغير قادح في التوحيد، بل هو حقيقته، ثم تسامح بعضهم بإثبات الجهة خاشيا من مثل هذا التسامح، وهل بين التكييف، وإثبات الجهة فرق؟، لكن إطلاق ما أطلقه الشرع من أنه القاهر فوق عباده، وأنه استوى على العرش، مع التمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في المعقول غيره، وهو قوله -تَعَالَى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] عصمة لمن وفقه الله -تَعَالَى-. انتهى (١).

قال الجامع عفا الله تَعَالَى عنه: كلام القاضي رحمه الله -تَعَالَى- الأخير هو الذي نعوّل عليه، فنثبت لله -تَعَالَى- ما أثبته، فلا نعطل، وننفي عنه التشبيه، فلا نمثل، وأما قوله: ويا ليت شعري إلى قوله: وهل بين التكييف وإثبات الجهة فوق؟ فكلام غير صحيح، إذ الفرق بينهما واضح حيث إن التكييف غير جائز، لقوله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، وأما إثبات الجهة بمعنى أنه -تَعَالَى- فوق العرش، وفوق مخلوقاته فوقية تليق بجلاله سبحانه وتعالى، فصحيح جائز الإطلاق، لقوله -تَعَالَى-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} الآية [النحل: ٥٠]، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: ١٠] الآية، ولحديث الباب: "أين الله؟ قالت: في السماء". . . إلى غير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة التي تثبت الفوقية لله سبحانه وتعالى. والله -تَعَالَى- أعلم.

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله -تَعَالَى- في "الاستذكار" ج-٢٣ ص ١٦٧ - ١٦٨ - في شرح هذا الحديث: ما نصه: وأما قوله في هذا الحديث للجارية: "أين الله؟ " فعلى ذلك جماعة أهل السنة، وهم أهل الحديث، ورواته المتفقون فيه، وسائر نقلته كلهم يقولون ما قال الله -تَعَالَى- في كتابه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥] وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في السماء، وعلمه في كل مكان، وهو ظاهر القرآن في قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: ١٦] وبقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: ١٠] وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: ٤].

ومثل هذا كثير في القرآن. ولم يزل المسلمون إذا دَهَمَهم أمر، يُقْلقهم، فزعوا إلى


(١) راجع شرح النووي على "صحيح مسلم" ج ٥ ص ٢٤ - ٢٥.