للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ١] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: ١].

وقد ردّ طائفة من الناس تفسير الصلاة من الله بالرحمة بأن قال: الرحمة معناها رقّة الطبع، وهي مستحيلة في حق الله سبحانه وتعالى، كما أن الدعاء منه سبحانه مستحيل، وهذا الذي قاله عرقٌ جَهْميّ ينضح من قلبه على لسانه، وحقيقته إنكار رحمة الله جملةً، وكان جهم يخرج إلى الْجَذْمَى، ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟! إنكاراً لرحمته سبحانه.

وهذا الذي ظنّه هذا القائل هو شُبهَةُ منكري صفات الرّبّ سبحانه وتعالى، فإنهم قالوا: الإرداة حركة النفس لجلب ما ينفعها، ودفع ما يضرّها، والربّ تعالى يتعالى عن ذلك، فلا إرادة له، والغضب غَلَيَان دم القلب طلباً للانتقام، والربّ منزّه عن ذلك، فلا غضب له، وسلكوا هذا المسلك الباطل في حياته، وكلامه، وسائر صفاته، وهو من أبطل الباطل، فإنه أخذ في مسمى الصفة خصائص المخلوق، ثم نفاها جملةً عن الخالق، وهذا في غاية التلبيس والإضلال، فإن الخاصّة التي أخذها في الصفة لم يثبت لها لذاتها، وإنما يثبت لها بإضافتها إلى المخلوق الممكن، ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه، ولا إثباتُ أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له، كما أن ما نُفي عن صفات الربّ تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق، ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق، ولا إطلاق الصفة على الخالق والمخلوق، وهذا مثل الحياة والعلم، فإن حياة العبد تعرض لها الآفات المضادّة لها، من المرض والنوم والموت، وكذلك علمه يعرض له النسيان والجهل المضادّ له، وهذا محال في حياة الربّ وعلمه، فمن نفى علم الرّبّ، وحياته لما يعرض فيهما للمخلوق، فقد أبطل، وهو نظير من نفى رحمة الرّبّ وعلمه، فمن نفى رحمة الرّبّ عنه لما يعرض في رحمة المخلوق من رقّة الطبع، وتوهّم المتوهّم أنه لا تعقل رحمة إلا هكذا، نظير توهّم المتوهّم أنه لا يعقل علم، ولا حياة، ولا إرادة إلا مع خصائص المخلوق.

وهذا الغلط منشؤه إنما هو توهّم صفة المخلوق المقيدّة به أولاً، وتوهّم أن إثباتها لله هو مع هذا القيد، وهذان وهمان باطلان، فإن الصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهّم فيها شيء من خصائص المخلوقين، لا في لفظها، ولا في ثبوت معناها، وكلّ من نفى عن الرّبّ تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله، لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق، بل ويلزمه نفي ذاته، لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة، ومعلوم أن الرّبّ سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها، وهذا الباطل قد التزمه