غُلاة المعطّلة، وكلّما أوغل النافي في نفيه كان قوله أشدّ تناقضاً، وأظهر بطلاناً، ولا يسلم على مِحكّ العقل الصحيح الذي لا يكذب إلا ما جاءت به الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم، كما قال تعالى:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات: ١٥٩]، فنزّه سبحانه وتعالى عما يصفه كلّ أحد إلا المخلصين من عباده، وهم الرسل، ومن تبعهم، كما قال في الآية الأخرى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:١٨٠ - ١٨٢]، فنزّه نفسه عمّا يصفه به الواصفون، وسلَّمَ على المرسلين، لسلامة ما صفوه به من كلّ نقص وعيب، وحمد نفسه، إذ هو الموصوف بصفات الكمال التي يستحقّ لأجلها الحمدَ، ومنزّه عن كلّ نقص يُنافي كمال حمده. انتهى كلام المحقق العلامة ابن القيّم رحمه الله تعالى ببعض تصرف (١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لقد حقق العلّامة ابن القيّم رحمه الله تعالى هذا البحث تحقيقاً نفيساً، فأجاد وأفاد، وأسهب وأعاد، جزاه الله على ذلك خيراً.
وخلاصته ترجيح تفسير الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالثناء عند ملائكته، كما نقل عن أبي العالية، وتضعيف تفسير من فسّرها بالرحمة.
وقال في "الفتح" بعدما ذكر الاختلاف: ما حاصله: وأولى الأقوال ما تقدّم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيّه -صلى الله عليه وسلم- ثناؤه عليه، وتعظيمه، وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك من الله تعالى، والمراد طلب أصل الصلاة.
ونقل عياض عن بكر القُشيريّ، قال: الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الله تشريف، وزيادة تكرمة، وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبين سائر المؤمنين، حيث قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية [الأحزاب: ٥٦] , وقال قبل ذلك:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} الآية [الأحزاب: ٤٣]، ومن المعلوم أن القدر الذي يليق بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد على أن في هذه الآية من تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتنويه به ما ليس في غيرها.
وقال الحَليميّ في "الشُّعَب": معنى الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- تعظيمه، فمعنى قولنا: اللَّهمّ صل على محمد: عَظِّمْ محمداً، والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله:{صَلُّوا} ادعوا ربّكم بالصلاة عليه. انتهى.
(١) "جَلَاءُ الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" ص ١٠٦ - ١٢٢.