وإنما حدثت التسليمتان في زمن بني هاشم، يعني في ولاية بني العبّاس. وقال الليث: أدركت الناس يُسلّمون تسليمة واحدة.
وقد اختُلف على كثير من السلف فى ذلك.
فروي عنهم التسليمتان، وروى عنهم التسليمة الواحدة، وهو دليل على أن ذلك كان عندهم سائغاً، وإن كان بعضه أفضل من بعض، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة، وعلى أهل العراق التسليمتان.
وحُكي للشافعي قول ثالث قديم أيضاً، وقيل: إن الربيع نقله عنه، فيكون حينئذ جديداً: أنه إن كان المصلي منفرداً، أو في جماعة قليلة، ولا لغط عندهم فتسليمة واحدة، وإلا فتسليمتان.
والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه، وصحّت صلاته، وذكره ابن المنذر إجماعاً ممن يَحفَظ عنه من أهل العلم (١).
وذهبت طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بلتسليمتين معاً، وهو قول الحسن بن حيّ، وأحمد في رواية عنه، وبعض المالكيّة، وبعض أهل الظاهر.
واستدلّوا بقوله عليه السلام: "تحليلها التسليم"، وقالوا: التسليم إلى ما عُهد منه فعله، وهو التسليمتان، وبقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صلّوا كما رأيتموني أصلي"، وقد كان يُسلّم تسليمتين.
ومن ذهب إلى قول الجمهور قال: التسليم مصدر، والمصدر يصدق على القليل والكثير، ولا يقتضي عدداً, فيدخل فيه التسليمة الواحدة.
واستدلّوا بأن الصحابة قد كان منهم من يُسلّم تسليمتين، ومنهم من يُسلّم تسليمة واحدةً, ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء، بل قد روي عن جماعة منهم التسليمتان، والتسليمة الواحدة، فدلّ على أنهم كانوا يفعلون أحياناً هذا، وأحياناً هذا، وهذا إجماع منهم على أن الواحدة تكفي.
قال أكثر أصحاب أحمد: ومحلّ الخلاف عن أحمد في الصلاة المكتوبة، فأما التطوّع فيُجزىء فيه تسليمة، واستدلّوا بحديث عائشة في صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل، وقد سبق ذكره.
وأخرج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة، يُسمعناها.
وقد تأوّل حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يُسمعهم واحدةً، ويُخفي
(١) دعوى الإجماع في هذا محلّ نظر؛ لما يأتي قريباً من قال بوجوب الثانية أيضاً، فتنبّه.