الذي صلى فيه حتى يتحوّل". رواه أبو داود، وإسناده منقطع. وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي -رضي الله عنه-، قال: "من السنة أن لا يتطوّع الإمام حتى يتحوّل من مكانه".
وحكى ابن قدامة في "المغني" عن أحمد أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير عليّ، فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة، ولا المغيرة، وكأن المعنى في كراهة ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة.
وفي مسلم "عن السائب بن يزيد، أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفّل بعدها، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلها بصلاة حتى تتكلّم، أو تخرج, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلك".
ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة.
ويؤخذ من مجموع الأدلّة أن للإمام أحوالا، لأن الصلاة إما أن تكون مما يُتطوّع بعدها، أو لا يتطوّع، الأول اختُلف فيه هل يتشاغل قبل التطوّع بالذكر المأثور، ثم يتطوّع؟ وهذا هو الذي عليه عمل الأكثرين, وعند الحنفية يبدأ بالتطوّع.
وحجة الجمهور حديث معاوية -رضي الله عنه-.
ويمكن أن يقال: لا يتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر، بل إذا تنحّى من مكانه كفى.
فإن قيل: لم يثبت حديث التنحّي.
قلنا: قد ثبت في حديث معاوية -رضي الله عنه- "أو تخرج".
ويترجّح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة.
وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام. وتعُقّب بحديث "ذهب أهل الدثور"، فإن فيه "تسبحون دبر كلّ صلاة"، وهو بعد السلام جزْماً، فكذا ما شابهه.
وأما الصلاة التي لا يُتطوّع بعدها، فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور، ولا يتعيّن له مكان، بن إن شاءوا انصرفوا، وذكروا، وإن شاءوا مكثوا، وذكروا، وعلى الثاني إن كان للإمام عادة أن يعلّمهم، أو يعظهم، فيستحبّ أن يقبل عليهم بوجهه جميعاً، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور، فهل يقبل عليهم جميعاً، أو ينفتل، فيجعل يمينه من قبل المأمومين، ويساره من قبل القبلة، ويدعو؟ الثاني هو الذي جزم به أكثر الشافعيّة.
ويحتمل إن قصر زمن ذلك أن يستمرّ مستقبلاً للقبلة, من أجل أنها أليق بالدعاء، ويُحمَلُ الأولُ على ما لو طال الذكر والدعاء انتهى كلام الحافظ رحمه الله تعالى (١).
(١) "فتح" جـ ٢ ص ٦٠٥ - ٦٠٦.