وقال ابن حزم: فإن أدخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله تعالى, ولا من الدعاء المأمور به، فالكلام مباح حينئذ، فهذان مذهبان آخران مفصّلان، إما بين أئمة الجور وغيرهم، وإما بين الوعظ وغيره.
وحكى ابنُ عبد البرّ قولاً خامساً أنه إنما يجب الإنصات عند تلاوة القرآن خاصّة، قال: روي عن الشعبي، وسعيد بن جبير، والنخعيّ، وأبي بُردة، قال: وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم بالسنّة الثابتة، وأحسن أحوالهم أنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك، لأنه حديث انفرد به أهل المدينة، ولا علم لمتقدمي أهل العراق به.
وقال ابن بطال: استماع الخطبة واجب وجوبَ سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من جعله فريضةً انتهى.
وهذا على قاعدة المالكية من وجوب السنن، ومعناه أنه سنة مؤكدة، وهو قول الشافعيّ في الجديد، فيكون ابن بطال نقل استحباب الإنصات عن الأكثرين، فمن أوجب الإنصات أخذ بقول من قال: إن اللغوَ الباطلُ، ومن استحبّه أخذ بقول من قال: إنه السقط، وما لا يُعتدّ به، ولغط الكلام، وما لا محصول له، أو الْمُطَّرَح من القول، وما لا يُعْنَى، فإن هذه العبارات متقاربة المعنى، ومقتضاها أن قائل اللغط غير مرتكب حراماً.
وقد قال الشافعي رحمه الله في قوله:"لغوت": تكلّمت في موضع الأدبُ فيه أن لا تتكلّم.
واحتجّ الشافعيّ في القديم على عدم تحريم الكلام في الخطبة بحديث أنس -رضي الله عنه- في الرجل الذي قام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة، وهو يخطب، فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله … "، وهو في "الصحيحين".
وبحديث عثمان -رضي الله عنه- حيث دخل يوم الجمعة، وعمر -رضي الله عنه- يخطب، فكلّمه، وأجابه.
واحتجّ على ذلك في الجديد بالحديث المتقدِّم قبل هذا في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الداخل، وهو يخطب عن كونه صلى، وإجابته له بقوله: "لا"، وقوله له: "صلّ ركعتين". وبكونه -صلى الله عليه وسلم- كلّم الذين قَتَلوا ابن أبي الْحُقَيق على المنبر، وكلموه، وتداعوا قتله، وقد رواه الشافعي مرسلاً، قال البيهقيّ، وهذا، وإن كان مرسلاً، فهو مشهور فيما بين أهل العلم بالمغازي. وروي من وجه آخر موصولاً عن عبد الله بن أنيس انتهى.
ومن ذهب إلى تحريم الكلام أجاب عن هذه الأحاديث بأن المخاطبة فيها من الإِمام، أو معه، فلا يشتغل بذلك عن سماع الخطبة، بخلاف كلام الحاضرين بعضهم مع بعض