وفي هذا الحديث ردّ على من زعم أن القصر مختصّ بالخوف، والذي قال ذلك تمسك بقوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ} الآية [النساء: ١٠١]، ولم يأخذ الجمهور بهذا المفهوم، فقيل: لأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يكون خرج مخرج الغالب، وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب، ثم زال السبب، وبقي الحكم، كالرمل، وقيل: المراد بالقصر في الآية قصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، وفيه نظر، لحديث يعلى بن أمية في سؤاله عمر - رضي اللَّه عنهما -. وقد تقدم أول "كتاب تقصير الصلاة" ١/ ١٤٣٣ - فإنه ظاهر في أن الصحابة فهموا من ذلك قصر الصلاة في السفر مطلقًا، لا قصرها في الخوف خاصّةً، وفي جواب عمر إشارة إلى القول الثاني، أفاده في "الفتح"(١). واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: في درجته:
حديث حارثة بن وهب الخزاعي - رضي اللَّه تعالى عنه - هذا متفق عليه.
المسألة الثانية: في بيان مواضع ذكر المصنف له، وفيمن أخرجه معه:
أخرجه هنا-٣/ ١٤٤٥ - وفي "الكبرى"-٣/ ١٩٠٣ - عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عنه. وفي-٣/ ١٤٤٦ - و"الكبرى"-٣/ ١٩٠٤ - عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، وسفيان، كلاهما عن أبي إسحاق به.
المسألة الثالثة: في اختلاف أهل العلم في حكم الصلاة بمنى:
قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: اختلف السلف في المقيم بمنى، هل يقصر، أو يتمّ، بناء على أن القصر بها للسفر، أو للنسك؟ واختار الثاني مالك. وتعقبه الطحاوي بأنه لو كان كذلك لكان أهل مني يُتمون، ولا قائل بذلك. وقال بعض المالكية: لو لم يجز لأهل مكة القصر بمنى لقال لهم النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -: أتموا، وليس بين مكة، ومنى مسافة القصر، فدلّ على أنهم قصروا للنسك.
وأجيب بأن الترمذي روى من حديث عمران بن حصين - رضي اللَّه عنه -: أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - كان يصلي بمكة ركعتين، ويقول:"يا أهل مكة أتموا، فإنا قوم سفر"، وكأنه ترك إعلامهم بذلك