وأخرجه (أحمد) ٣/ ١٤٤ و ٣/ ١٦٨. واللَّه تعالى أعلم.
المسألة الثانية: دلّ حديث أنس - رضي اللَّه تعالى عنها - هذا أن عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه - أتمّ في مني في أواخر إمارته، وكذا ثبت عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها كانت تتم فيه:
فقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، قالت:"الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرّت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر"، قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتمّ؟ قال: تأولت ما تأول عثمان انتهى.
فاختُلف في سبب إتمامهما - رضي اللَّه تعالى عنهما -:
فأما عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -، فقيل: سبب إتمامه لكونه تأهل بمكة، أو لأنه أمير المؤمنين، وكلّ موضع له دار، أو لأنه عزم على الإقامة بمكة، أو لأنه استجدّ له أرضا بمنى، أو لأنه كان يسبق الناس إلى مكة.
قال الحافظ: يردّ هذا كله قول عروة: "تأولت ما تأول عثمان", لأن جميع ذلك منتف في حق عائشة - رضي اللَّه عنها -، وأكثره لا دليل عليه، بل هي ظنون ممن قالها، ويردّ الأول أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - كان يسافر بزوجاته وقصر، والثاني أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - كان أولى بذلك، والثالث أن الإقامة بمكة على المهاجر حرام، والرابع والخامس لم يُنقلا، فلا يكفي التخرّص في ذلك، والأول، وإن كان نُقل، وأخرجه أحمد، والبيهقي من حديث عثمان، وأنه لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه، فقال: إني تأهلت بمكة لَمَّا قدمتُ، وإني سمعت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - يقول:"من تأهل ببلدة، فإنه يصلي صلاة مقيم" فهذا الحديث لا يصحّ؛ لأنه منقطع، وفي رُواته من لا يُحتجّ به، ويردّه قول عروة: إن عائشة تأولت ما تأول عثمان، ولا جائز أن تتأهل عائشة أصلًا، فدلّ على وَهْن ذلك الخبر.
قال الحافظ: ثم ظهر لي أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله: "كما تأول عثمان" التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل، لا اتحاد تأوليهما، ويقوّيه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان، فتكاثرت، بخلاف تأويل عائشة.
وقد أخرج ابن جرير في "تفسير سورة النساء" أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا،
فإذا احتجّوا عليها، تقول:"إن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - كان في حرب، وكان يخاف، فهل تخافون أنتم؟ ".
وقد قيل في تأويل عائشة إنما أتمت في سفرها إلى البصرة إلى قتال علي، والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة. وهذا القولان باطلان، لا سيما الثاني.