والمنقول أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصًا بمن كان شاخصًا سائرًا، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره، فله حكم المقيم، فيتمّ، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن، عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، قال: لما قدم معاوية حاجًا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم إنصرف إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان، وعمرو بن عثمان، فقالا: لقد عبت أمر ابن عمّك؛ لأنه كان قد أتمّ الصلاة قال: وكان عثمان حيث أتمّ الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعًا، ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحجّ، وأقام بمنى أتمّ الصلاة.
وقال ابن بطال: الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته، فأخذا لأنفسهما بالشدّة اهـ.
قال الحافظ: وهذا رجحه جماعة، من آخرهم القرطبي. لكن الوجه الذي قبله أولى لتصريح الراوي بالسبب.
وأما ما رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، أن عثمان إنما أتمّ الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحجّ، فهو مرسل، وفيه نظر, لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام، وصح عن عثمان أنه كان لا يودّع النساء إلا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج، خشية أن يرجع في هجرته, وثبت عن عثمان أنه قال لما حاصروه -وقال له المغيرة: اركب راحلتك إلى مكة- قال: لن أفارق دار هجرتي، ومع هذا النظر في رواية معمر، عن الزهري، فقد روى أيوب، عن الزهري ما يُخالفه:
فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا, لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام، فأحبّ أن يُعلمهم أن الصلاة أربع.
وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن عثمان، أنه أتمّ بمنى، ثمّ خطب، فقال: إن القصر سنة رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - وصاحييه، ولكنه حدث طَغَام -بفتح الطاء والمعجمة- فخفتُ أن يستنّوا.
وعن ابن جُريج أن أعرابيا ناداه في منى: يا أمير المؤمنين ما زلت أُصليها منذ رأيتك عام أول ركعتبن.
قال الحافظ: وهذه الطرق يقوي بعضها بعضًا, ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته، بل يُقوّيه، من حيث إن الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر، وهذا ما أدى إليه أجتهاد عثمان - رضي اللَّه تعالى عنه -.
وأما عائشة - رضي اللَّه عنها -، فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحًا، وهو فيما رواه البيهقي من