عن الرأي المحض، ثم تدوين ما يتعلّق بأعمال القلوب. فأما الأول فأنكره عمر، وأبو موسى، وطائفة، ورخّص فيه الأكثرون. وأما الثاني، فأنكره جماعة من التابعين، كالشعبي. وأما الثالث، فأنكره الإمام أحمد، وطائفة يسيرة، وكذا اشتدّ إنكار أحمد للذي بعده.
ومما حدث أيضًا تدوين القول في أصول الديانات، فتصدّى لها المثبتة والنُّفَاة، فبالغ الأول حتى شبّه، وبالغ الثاني حتى عطّل، واشتد إنكار السلف لذلك، كأبي حنيفة، وأبي يوسف، والشافعي، وكلامهم في ذمّ أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلّموا فيما سكت عنه النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر شيء من الأهواء -يعني بدع الخوارج والروافض، والقدريّة- وقد توسّع من تأخّر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين، وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردّون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل، ولو مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم، وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه، فهو عاميّ جاهل.
فالسعيد من تمسّك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بُدّ فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة، واللَّه ولي التوفيق.
وقد أخرج أحمد بسند جيّد عن غُضيف بن الحارث، قال: بَعَث إليّ عبد الملك بن مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بِدَعِكم عندي، ولستُ بمجيبكم إلى شيء منهما، لأن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قال:"ما أحدث قوم بدعةً، إلا رُفع من السنة مثلها، فتمسُّكٌ بسنّة خير من إحداث بدعة". انتهى.
وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة، فما ظنّك بما لا أصل له فيها، فكيف بما يشتمل على ما يخالفها. وفي "كتاب العلم" من "صحيح البخاري" أن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - كان يذكر الناس كل خميس لئلا يَمَلّوا. وفي "كتاب الرقاق" منه أن ابن عباس - رضي اللَّه عنه - قال: حدِّثِ الناسَ كلّ جمعة، فإن أبيت فمرّتين، ونحوُهُ وصيّة عائشة لعُبيد بن عُمير، والمراد بالقصص التذكير والموعظة، وقد كان ذلك في عهد النبي - صلى اللَّه عليه وسلم -، لكن لم يكن يجعله راتبًا كخطبة الجمعة، بل بحسب الحاجة. انتهى كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- ببعض تصرّف (١)، وهو بحثٌ نفيسٌ جدّا. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه