والجمع بين الحديثين احتمالُ تقدم الواقعة، أو أن يكون في قصّة الحديث الذي ذكره نبهان شيء يَمنع النساءَ من رؤيته، لكون ابن أم مكتوم كان أعمى، فلعلّه كان منه شيء، ينكشف، ولا يشعر به.
ويقوّي الجوازَ استمرارُ العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد، والأسواق، والأسفار، منتقبات، لئلا يراهنّ الرجال، ولم يؤمر الرجالُ قطّ بالانتقاب، لئلا يراهم النساء، فدلّ على تغاير الحكم بين الطائفتين، وبهذا احتجّ الغزاليّ على الجواز، فقال: لسنا نقول: إن وجه الرجل في حقّها عورة، كوجه المرأة في حقه، بل كوجه الأمرد في حقّ الرجل، فيحرم النظر عند خوف الفتنة، فقط، وإن لم تكن فتنة فلا، إذ لم تزل الرجال على ممرّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساءُ يخرجن منتقبات، فلو استووا لأُمِرَ الرجالُ بالتنقّب، أو مُنِعْنَ الخروجَ انتهى (١).
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -:
ما قاله الغزالي -رحمه اللَّه تعالى- هو الحقّ عندي، وإن كان ظاهر تبويب المصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- يوافق مذهب المانعين، حيث قيّد النظر باللعب، فإن اسم الإشارة في قوله: "ونظر النساء إلى ذلك" يرجع إلى اللعب، فكأنه يقول. النظر للعب، لا للرجال، وهو مخالف لظاهر تبويب البخاريّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، كما تقدّم.
والحاصل أن مذهب المجوّزين لنظر المرأة إلى وجه الرجل دون العكس عند الأمن من الفتنة هو الراجح؛ لظاهر حديث الباب، ولما شاع عند المسلمين في كلّ عصر ومصر من استمرار العمل على جواز خروج المرأة إلى المساجد ونحوها، محتجبة لئلا يراها الرجال، ولم يؤمر الرجال بذلك، فلو كان نظر المرأة كنظر الرجل إلى المرأة لأُمر الرجال بالاحتجاب كالنساء، وهذا أقوى حجة في هذه المسألة. واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
١٥٩٥ - أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ, قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ, قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -, يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ, وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ, يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ, حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَسْأَمُ, فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ, الْحَدِيثَةِ السِّنِّ, الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ.
رجال هذا الإسناد: ستة:
١ - (عليّ بن خَشْرم) المروزيّ، ثقة، من صغار [٩] ٨/ ٨.
(١) - فتح ج ١٠ ص ٤٢٢.