أتأمَّمُ رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - يتلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنئوني بتوبتي، ويقولون: لِيَهْنِكَ توبة اللَّه عليك، حتى دخلت المَسجد، فإذا رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - حوله الناس، فقام طلحة بن عبير اللَّه يَهُروِلُ حتى صافحني، وهنأني، فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - قال -وهو يبرق وجهه من السرور-: "أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك" … الحديث. وغير ذلك من الأحاديث.
وقد ألف الإمام السيوطي -رحمه اللَّه تعالى- رسالة سماها "وصول الأماني بأصول التهاني" جمع فيها ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار، فمن ذلك ما جاء عن جبير بن نفير أنه قال:"كان أصحاب رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل اللَّه منا ومنكم" حسنه السيوطي، وحسنه الحافظ قبله في "الفتح" جـ ٢ ص ٤٤٦.
ومن ذلك ما أخرجه ابن حبان في "الثقات" عن علي بن ثابت قال: سألت مالكًا عن قول الناس في العيد: تقبل اللَّه منا ومنك؟ فقال. ما زال الأمر عندنا كذلك. ومن ذلك ما أخرجه زاهر بن طاهر عن محمد بن زياد الألهاني قال: رأيت أبا أمامة الباهلي يقول في العيد لأصحابه: تقبل اللَّه منا ومنكم. حسنه السيوطي.
ومن ذلك ما أخرجه البيهقي عن آدم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر ابن عبد العزيز في العيدين: تقبل اللَّه منا ومنك يا أمير المؤمنين، فيرد علينا مثله، ولا ينكر ذلك. وغير ذلك من الآثار التي أوردها السيوطي في تلك الرسالة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى- في "مجموع الفتاوى" جـ ٢٤ ص ٢٥٣: أما التهنئة يوم العيد يقول بعضهم لبعض إذا لقيه بعد صلاة العيد: تقبل اللَّه منا ومنكم، وأحاله اللَّه عليك، ونحو ذلك، فهذا قد رُوِيَ عن طائفة من الصحابه أنهم كانوا يفعلونه، ورخص فيه الأئمة، كأحمد وغيره، لكن قال أحمد: أنا لا أبتدئ أحدا، فإن ابتدأني أحدٌ أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس بسنة مأمورًا لها، ولا هو أيضًا مما نُهِي عنه، فمن فعله فله قدوة، ومن تركه فله قدوة. واللَّه أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام.
قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: هذا الذي نُقِلَ عن الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- حسن جدًّا.
والحاصل أن التهنئة في الأصل مشروعة في مناسبات كثيرة، كما سبقت في الأحاديث الصحيحة المذكورة، وأما بخصوص يوم العيد فلم يُنقل مرفوعًا، وإنما نُقِلَ من آثار الصحابة فمن بعدهم، فمن فعله فهم القدوة له، ومن تركه فحجته عدم ثبوته مرفوعًا، فلا يُنكَر على من تركه، ولا على من فعله؛ لثبوت التهنئة في غير العيد بكثرة، ولفعل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - له في العيد. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
"إن أريد إلا الإصلاح، ما استطعت، وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكلت، وإليه أنيب".