يَنْهَهُ، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً يَمْدَحُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ لَا أَرَى لَكَ فيما هَاهُنَا حَقًّا، فَقَالَ: إِنِّي مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، قال: إنا ولينا هذا الأمر ونحن لا تملك إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ مِائَةً وَابْنُهَا مِائَةً وَقَدْ بَقِيَتْ مِائَةٌ، فَأَمَرَ له بها، فخرج عَلَى الشُّعَرَاءِ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا جَرِيرُ؟ فَقَالَ:
مَا يَسُوءُكُمْ، خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ ... وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقِيَا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَتْ جَارِيَةٌ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يوسف: إِنَّكَ تُدْخِلُ هَذَا عَلَيْنَا، فَقَالَ: إِنَّهُ مَا علمت عَفِيفًا، فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَلَيْتِنِي وَإِيَّاهُ سَتَرَى مَا يَصْنَعُ، فَأَمَرَ بِإِخْلَائِهَا مَعَ جَرِيرٍ في مكان يراهما الحجاج ولا يريانه، وَلَا يَشْعُرُ جَرِيرٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ:
يَا جَرِيرُ، فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، فَقَالَتْ: أَنْشِدْنِي مِنْ قَوْلِكَ كَذَا وكذا- لشعر فيه رقة- فَقَالَ:
لَسْتُ أَحْفَظُهُ وَلَكِنْ أَحْفَظُ كَذَا وَكَذَا- وَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الحجاج- فقالت:
لست أريد هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا- فَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الْحَجَّاجِ- فَقَالَتْ:
لست أريد هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا فَيُعْرِضُ عَنْ ذاك وينشدها في الْحَجَّاجِ- حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: للَّه دَرُّكَ، أَبَيْتَ إِلَّا كَرَمًا وَتَكَرُّمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَنْشَدْتُ أَعْرَابِيًّا بَيْتًا لِجَرِيرٍ الْخَطَفَى:
أَبُدِّلَ اللَّيْلُ لَا تَجْرِي كَوَاكِبُهُ ... أَوْ طَالَ حَتَّى حَسِبْتُ النَّجْمَ حَيْرَانَا
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ فِي مَعْنَاهُ وَأَعُوذُ باللَّه مِنْ مِثْلِهِ، وَلَكِنِّي أَنْشُدُكَ فِي ضِدِّهِ مِنْ قَوْلِي
وَلَيْلٍ لَمْ يُقَصِّرْهُ رُقَادٌ ... وَقَصَّرَهُ لَنَا وَصْلُ الْحَبِيبِ
نَعِيمُ الْحُبِّ أَوْرَقَ فِيهِ ... حَتَّى تَنَاوَلْنَا جَنَاهُ مِنْ قِرِيبِ
بِمَجْلِسِ لَذَّةٍ لَمْ نَقْفِ فِيهِ ... عَلَى شكوى ولا عيب الذنوب
فخشينا أَنْ نُقَطِّعَهُ بِلَفْظٍ ... فَتَرْجَمَتِ الْعُيونُ عَنِ الْقُلُوبِ [١]
فَقُلْتُ لَهُ: زِدْنِي، قَالَ: أَمَّا مِنْ هَذَا فَحَسْبُكَ وَلَكِنْ أُنْشِدُكَ غَيْرَهُ فَأَنْشَدَنِي:
وَكُنْتُ إِذَا عَقَدْتُ حِبَالَ قَوْمٍ ... صَحِبْتُهُمْ وَشِيمَتِيَ الْوَفَاءُ
فَأُحْسِنُ حِينَ يُحْسِنُ مُحْسِنُوهُمْ ... وَأَجْتَنِبُ الْإِسَاءَةَ إِنْ أَسَاءُوا
أَشَاءُ سِوَى مَشِيئَتِهِمْ فَآتِي ... مَشِيئَتَهُمْ وَأَتْرُكُ مَا أَشَاءُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَ مِنَ الْفَرَزْدَقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَهُ جَرِيرٌ:
إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ حَسِبْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا قَالَ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَشْعَرُ النَّاسِ؟ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ عَلَى ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي
[١] في هذه الأبيات تحريف، ولم نقف عليها في مرجع آخر.