مؤهلة لقبول الحقّ، كما خلق أعينهم، وأسماعهم قابلة للمرئيّات، والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الهيئة أدركت الحقّ، ودينُ الإسلام هو الدينُ الحقّ، وقد دلّ على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال:"كما تُنتَجُ البهيمة" يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرّفوا فيه بقطع أذنه مثلاً، فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح، واللَّه أعلم.
وقال ابن القيّم: ليس المراد بقوله: "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن اللَّه يقول:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل:٧٨]، ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبّة، وليس المراد مجرّد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغيّر بتهويد الأبوين مثلًا، بحيث يُخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كلّ مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلّي، وعدم المعارض لم يَعدِل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبّة ما يلائم بدنه، من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثمّ شبّهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا، واللَّه أعلم.
الخامس: قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه، من شقاوة أو سعادة، فمن علم اللَّه أنه يصير مسلمًا وُلد على الإسلام، ومن علم اللَّه أنه يصير كافرًا ولد على الكفر، فكأنه أَوَّلَ الفطرةَ بالعِلْم. وتُعُقب بأنه لو كان كذلك لم يكن لقوله:"فأبواه يهوّدانه الخ" معنى، لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي وُلد عليها، فينافي التمثيل بحال البهيمة.
السادس: أن المراد أن اللَّه خلق فيهم المعرفة والإنكار، فلما أخذ الميثاق من الذرّيّة قالوا جميعًا:{بَلَى}[الأعراف: ١٧٢] أما أهل السعادة، فقالوها طوعًا، وأما أهل الشقاوة فقالوها كرهًا. وقال محمد بن نصر: سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، ويرجّحه. وتعقّب بأنه يحتاج إلى نقل صحيح، فإنه لا يعرف هذا التفصيل عند أخذ الميثاق إلا عن السديّ، ولم يسنده، وكأنه أخذه من الإسرائيليات، حكاه ابن القيّم عن شيخه.
السابع: أن المراد بالفطرة الخلقة، أي يولد سالمًا لا يَعرف كفرًا ولا إيمانًا، ثم يعتقد إذا بلغ التكليف، ورجحه ابن عبد البرّ، وقال: إنه يطابق التمثيل بالبهيمة، ولا يخالف حديث عياض، لأن المراد بقوله {حَنِيفَا}[الروم: ٣٠] أي على استقامة. وتعقّب بأنه لو كان كذلك لم يقتصر في أحوال التبديل على ملل الكفر دون ملّة الإسلام، ولم يكن لاستشهاد أبي هريرة بالآية معنى.