أحدهما: ما أخرجه البخاريّ وغيره من حديث عقبة بن عامر - رضي اللَّه عنه - أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت"، وقد تقدّم أن دعوى كون المراد بالصلاة الدعاء غير صحيحة، بل المراد الصلاة المشروعة على الأموات، بدليل قوله: "صلاتَهُ على الميت".
والثاني: حديث شداد بن الهاد - رضي اللَّه عنه - المذكور في هذا الباب، وقد عرفت أنه حديث صحيح. فهذان الحديثان يكفيان لإثبات مشروعية الصلاة على الشهيد، فالمذهب الراجح هو مذهب من أثبت الصلاة عليه، لكن على سبيل الجواز، لا على سبيل الوجوب، كما نقل عن الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-، فإنه قال في رواية المروزيّ عنه: الصلاة عليه أجود، وإن لم يصلوا عليه أجزأ. انتهى. وقال أبو محمد ابن حزم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن صُلي على الشهيد، فحسن، وإن لم يصلّ عليه فحسن، واستَدَلَّ بحديثي جابر، وعقبة - رضي اللَّه عنهما - المذكورين، وقال: ليس يجوز أن يُترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حقّ مباح، وليس هذا مكان نسخ، لأن استعمالهما معًا ممكن في أحوال مختلفة انتهى (١).
والحاصل أن الصواب جواز الصلاة على الشهيد، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله، والصلاة عليه، هل هو مختصّ بمن قُتل في المعركة في حرب الكفّار، أو أعم من ذلك؟: فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفّار، ولا فرق في ذلك بين الرجل، والمرأة، والكبير، والصغير، والحرّ، والعبد، والصالح، وغيره. وخرج بقوله: "في المعركة" من جُرح في المعركة، وعاش بعد ذلك حياة مستقرّة، وخرج بـ "حرب الكفّار" من مات بقتال المسلمين، كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمّى شهيدًا بسببٍ غير السبب المذكور، كمن مات مبطونًا، أو مطعونًا، فإنما يقال له: شهيد بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله هو القول الراجح من مذاهب العلماء.
وروي عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد أن من جُرح في المعركة إن مات قبل الارتثاث، فشهيد، والارتثاث أن يُحمَل، أو يأكل، أويشرب، أو يوصي، أو يَبقَى في المعركة يوما وليلة حيًّا.